بيان
nindex.php?page=treesubj&link=19793_27926_27209_30200_29497حقيقة الدنيا في نفسها
اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل ، وإنما الأعيان الموجودة التي لدينا عبارة عنها ، فهي الأرض وما عليها ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=7إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) [ الكهف : 7 ] فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر ، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح ، ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام : المعادن والنبات والحيوان .
أما النبات : فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي .
وأما المعادن : فيطلبها للآلات والأواني ، كالنحاس والرصاص ، وللنقد كالذهب والفضة ، ولغير ذلك من المقاصد .
وأما الحيوان : فينقسم إلى الإنسان والبهائم ، أما البهائم فيطلب منها لحومها للمآكل ، وظهورها للمركب والزينة ، وأما الإنسان فقد يطلب الآدمي ليستخدم كالغلمان ، أو ليتمتع به كالجواري والنسوان ، ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام ، وهو الذي يعبر عنه بالجاه ، إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين ، فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا ، وقد جمعها الله تعالى في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ) وهذا من الإنس ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) وهذا من الجواهر والمعادن ، وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14والخيل المسومة والأنعام ) وهي البهائم والحيوان ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14والحرث ) وهو النبات والزرع ، فهذه هي أعيان الدنيا ، إلا أن لها مع العبد
[ ص: 218 ] علاقتين : علاقة مع القلب ، وهو حبه لها ، وحظه منها ، وانصراف همه إليها ، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا ، ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلق بالدنيا ، كالكبر ، والغل ، والحسد ، والرياء ، والسمعة ، وسوء الظن ، والمداهنة ، وحب الثناء ، وحب التكاثر والتفاخر ، وهذه هي الدنيا الباطنة ، وأما الظاهرة فهي كالأعيان التي ذكرناها .
العلاقة الثانية مع البدن ، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان ؛ لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره ، وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها . والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين : علاقة القلب بالحب ، وعلاقة البدن بالشغل ، ولو عرف نفسه ، وعرف ربه ، وعرف حكمة الدنيا وسرها - علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لقوامه ؛ ليتقوى بها على إصلاح دينه ، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته ، وبقي ملازما لسياسة الشهوات ومراقبا لها ، حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى ، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية ، وهم الصحابة ، فقد كانوا على المنهج القصد ، وعلى السبيل الواضح ، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا ، بل للدين ، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية ، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط ، بل كان أمرهم بين ذلك قواما ، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين ، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى .
بَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=19793_27926_27209_30200_29497حَقِيقَةِ الدُّنْيَا فِي نَفْسِهَا
اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا حَظٌّ وَلَهُ فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ ، وَإِنَّمَا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ الَّتِي لَدَيْنَا عِبَارَةٌ عَنْهَا ، فَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=7إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [ الْكَهْفِ : 7 ] فَالْأَرْضُ فِرَاشٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَمِهَادٌ وَمَسْكَنٌ وَمُسْتَقَرٌّ ، وَمَا عَلَيْهَا لَهُمْ مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمَنْكَحٌ ، وَيَجْمَعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ .
أَمَّا النَّبَاتُ : فَيَطْلُبُهُ الْآدَمِيُّ لِلِاقْتِيَاتِ وَالتَّدَاوِي .
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ : فَيَطْلُبُهَا لِلْآلَاتِ وَالْأَوَانِي ، كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ ، وَلِلنَّقْدِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ .
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ : فَيَنْقَسِمُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ ، أَمَّا الْبَهَائِمُ فَيَطْلُبُ مِنْهَا لُحُومَهَا لِلْمَآكِلِ ، وَظُهُورَهَا لِلْمَرْكَبِ وَالزِّينَةِ ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ يَطْلُبُ الْآدَمِيَّ لِيُسْتَخْدَمَ كَالْغِلْمَانِ ، أَوْ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ كَالْجَوَارِي وَالنِّسْوَانِ ، وَيَطْلُبُ قُلُوبَ النَّاسِ لِيَمْلِكَهَا بِأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَاهِ ، إِذْ مَعْنَى الْجَاهِ مِلْكُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَعْيَانُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدُّنْيَا ، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ) وَهَذَا مِنَ الْإِنْسِ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) وَهَذَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَعَادِنِ ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ ) وَهِيَ الْبَهَائِمُ وَالْحَيَوَانُ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14وَالْحَرْثِ ) وَهُوَ النَّبَاتُ وَالزَّرْعُ ، فَهَذِهِ هِيَ أَعْيَانُ الدُّنْيَا ، إِلَّا أَنَّ لَهَا مَعَ الْعَبْدِ
[ ص: 218 ] عَلَاقَتَيْنِ : عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ ، وَهُوَ حُبُّهُ لَهَا ، وَحَظُّهُ مِنْهَا ، وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إِلَيْهَا ، حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ أَوِ الْمُحِبِّ الْمُسْتَهْتِرِ بِالدُّنْيَا ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْقَلْبِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّنْيَا ، كَالْكِبْرِ ، وَالْغِلِّ ، وَالْحَسَدِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَالسُّمْعَةِ ، وَسُوءِ الظَّنِّ ، وَالْمُدَاهَنَةِ ، وَحُبِّ الثَّنَاءِ ، وَحُبِّ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَهَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا الْبَاطِنَةُ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْبَدَنِ ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ ؛ لِتَصْلُحَ لِحُظُوظِهِ وَحُظُوظِ غَيْرِهِ ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الَّتِي الْخَلْقُ مَشْغُولُونَ بِهَا . وَالْخَلْقُ إِنَّمَا نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَآبَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ بِالدُّنْيَا لِهَاتَيْنِ الْعَلَاقَتَيْنِ : عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِالْحُبِّ ، وَعَلَاقَةِ الْبَدَنِ بِالشُّغْلِ ، وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ ، وَعَرَفَ رَبَّهُ ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ الدُّنْيَا وَسِرَّهَا - عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا دُنْيَا لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِقَوَامِهِ ؛ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى إِصْلَاحِ دِينِهِ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَلْبُ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُنْهِ هِمَّتِهِ ، وَبَقِيَ مُلَازِمًا لِسِيَاسَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُرَاقِبًا لَهَا ، حَتَّى لَا يُجَاوِزَ حُدُودَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى ، وَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَصْدِ ، وَعَلَى السَّبِيلِ الْوَاضِحِ ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا ، بَلْ لِلدِّينِ ، وَمَا كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ وَيَهْجُرُونَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ ، بَلْ كَانَ أَمْرُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَهُوَ أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .