الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      ( نعمة الله ) قيل : هي الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      والميثاق : العهد ، قيل : المراد به هنا : ما أخذه على بني آدم كما قال : وإذ أخذ ربك من بني آدم [ الأعراف : 172 ] الآية ، قال مجاهد وغيره : نحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به ، وقيل : هو خطاب لليهود ، والعهد : ما أخذه عليهم في التوراة ، وذهب جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة عليهم ، وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأضافه تعالى إلى نفسه ؛ لأنه عن أمره وإذنه كما قال : إنما يبايعون الله [ الفتح : 10 ] وبيعة العقبة مذكورة في كتب السير ، وهذا متصل بقوله : ( أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إذ قلتم سمعنا وأطعنا أي : وقت قولكم هذا القول ، وهذا متعلق بـ ( واثقكم ) ، أو بمحذوف وقع حالا ؛ أي : كائنا هذا الوقت ، و ( ذات الصدور ) ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد ، ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب ، وإذا كان سبحانه عالما بها فكيف بما كان ظاهرا جليا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين قد تقدم تفسيرها في النساء ، وصيغة المبالغة في ( قوامين ) تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتم قيام ( لله ) أي لأجله تعظيما لأمره وطمعا في ثوابه .

                                                                                                                                                                                                                                      والقسط : العدل ، وقد تقدم الكلام على قوله : ( يجرمنكم ) مستوفى ؛ أي : لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل وكتم الشهادة ( اعدلوا هو ) أي : العدل المدلول عليه بقوله : اعدلوا ( أقرب للتقوى ) التي أمرتم بها غير مرة ؛ أي : أقرب لأن تتقوا الله ، أو لأن تتقوا النار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لهم مغفرة وأجر عظيم هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله : ( وعد ) على معنى وعدهم أن لهم مغفرة ، أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه ، ومثله قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ( أصحاب الجحيم ) أي : ملابسوها ، قوله : ( إذ هم قوم ) ظرف لقوله : ( اذكروا ) أو للنعمة أو لمحذوف وقع حالا منها : ( أن يبسطوا ) أي بأن يبسطوا ، وقوله : ( فكف ) معطوف على قوله : ( هم ) وسيأتي بيان سبب نزول هذه الآية ، وبه يتضح المعنى ، وقد أخرج ابن جرير والطبراني في الكبير ، عن ابن عباس في قوله : إذ قلتم سمعنا وأطعنا يعني حيث بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه الكتاب قالوا : آمنا بالنبي والكتاب وأقررنا بما في التوراة ، فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : النعم : الآلاء ، وميثاقه الذي واثقكم به قال : الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم عليه السلام . وأخرج ابن جرير ، عن عبد الله بن كثير في قوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط الآية ، قال : نزلت في يهود خيبر ، ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتيهم في دية فهموا أن يقتلوه ، فذلك قوله : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا الآية . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل ، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، فعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله ، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، قال الأعرابي ، مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الله ، فشام الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال معمر : وكان قتادة يذكر نحو هذا ، ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي ، ويتأول اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم الآية . وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه ، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحارث ، وأنه لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الله ، سقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ ، قال : فشهد أن لا إله إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه أيضا ابن إسحاق وأبو نعيم في الدلائل [ ص: 360 ] عنه . وأخرج ابن نعيم في الدلائل عن ابن عباس : أن بني النضير هموا أن يطرحوا حجرا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه ، فجاء جبريل فأخبره بما هموا ، فقام ومن معه ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم الآية ، وروي نحو هذا من طرق عن غيره ، وقصة الأعرابي وهو غورث المذكور ثابتة في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية