الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله سبحانه وتعالى : ( يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء -عليهم السلام- حصول العبرة لمن يسمعها ، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال : ( يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة ، فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى . فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال : ( لا يفتننكم الشيطان ) فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ، فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش . ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قال الكعبي : هذه الآية حجة على من نسب خروج آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان : وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها . فيقال له : لم قلتم أن كون هذا العمل منسوبا إلى الشيطان يمنع من كونه منسوبا إلى الله تعالى ؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل ، كان منسوبا إلى الله تعالى ؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان ، وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر ، كان منسوبا إلى الشيطان .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج آدم وحواء من الجنة ، عقوبة لهما على تلك الزلة ، وظاهر قوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ( البقرة : 30 ) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود . فكيف الجمع بين الوجهين ؟ [ ص: 45 ] وجوابه : أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمرين ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : ( ينزع عنهما لباسهما ) حال ، أي أخرجهما نازعا لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك ؛ لأنه كان بسبب منه ، فأسند إليه كما تقول : أنت فعلت هذا ؟ لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب ، وإن لم يباشره ، وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : اللام في قوله : ( ليريهما ) لام العاقبة كما ذكرنا في قوله : ( ليبدي لهما ) قال ابن عباس رضي الله عنه : ما يرى آدم سوءة حواء وترى حواء سوءة آدم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : اختلفوا في اللباس الذي نزع منهما ، فقال بعضهم : إنه النور ، وبعضهم : التقى ، وبعضهم : اللباس الذي هو ثياب الجنة ، وهذا القول أقرب ؛ لأن إطلاق اللباس يقتضيه ، والمقصود من هذا الكلام تأكيد التحذير لبني آدم ؛ لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد ، فكيف يكون حال آحاد الخلق ؟ ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : ( إنه يراكم ) يعني إبليس ( هو وقبيله ) أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله : ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قال أبو عبيدة عن أبي زيد : "القبيل" الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى ، وجمعه قبل . والقبيلة : بنو أب واحد . وقال ابن قتيبة : قبيله أصحابه وجنده ، وقال الليث : ( هو وقبيله ) أي هو ومن كان من نسله .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : قال أصحابنا : إنهم يرون الإنس ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا ، والإنس لا يرونهم ؛ لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس ، وقالت المعتزلة : الوجه في أن الإنس لا يرون الجن ، رقة أجسام الجن ولطافتها . والوجه في رؤية الجن للإنس ، كثافة أجسام الإنس ، والوجه في أن يرى بعض الجن بعضا ، أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ، ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضا ، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم ، فعلى هذا كون الإنس مبصرا للجن موقوف عند المعتزلة : إما على زيادة كثافة أجسام الجن ، أو على زيادة قوة أبصار الإنس .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الرابع : قوله تعالى : ( من حيث لا ترونهم ) يدل على أن الإنس لا يرون الجن ؛ لأن قوله : ( من حيث لا ترونهم ) يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ، قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاءوا وأرادوا ، لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس ، فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جني صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي ، وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص ، وأيضا فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس ، فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد ؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى ، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه . ويتأكد هذا بقوله : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ ص: 46 ] [إبراهيم : 22] قال مجاهد : قال إبليس : أعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى ، ونخرج من تحت الثرى ، ويعود شيخنا فتى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) فقد احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم ، قال الزجاج : ويتأكد هذا النص بقوله تعالى : ( أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) ( مريم : 83 ) قال القاضي : معنى قوله : ( جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن ، قال : ومعنى قوله : ( أرسلنا الشياطين على الكافرين ) ( مريم : 83 ) هو أنا خلينا بينهم وبينهم ، كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل : إنه أرسل عليه كلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : إن القائل إذا قال : إن فلانا جعل هذا الثوب أبيض أو أسود ، لم يفهم منه أنه حكم به ، بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه ، فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل ، لا على مجرد الحكم ، وأيضا فهب أنه تعالى حكم بذلك ، لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذبا وهو محال ، فالمفضي إلى المحال محال ، فكون العبد قادرا على خلاف ذلك ، وجب أن يكون محالا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله إن قوله تعالى : ( أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضا ، ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضا ، ويشتم بعضهم بعضا ، ثم إن زيدا وعمرا إذا لم يمنع بعضهم عن البعض . لا يقال إنه أرسل بعضهم على البعض ، بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته ، فكذا ههنا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية