الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون فمضمون النهي عن عدم الالتفات إليهم؛ والسير على منهاجه؛ ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك: وادع إلى ربك أي: امض في طريقك داعيا إلى ربك العليم بكل عمل؛ وبكل قول؛ حقا أو افتراء؛ وهذا النهي كقوله (تعالى): ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك وادع إلى ربك ؛ ثم أكد - سبحانه - مضيه وعدم التفاته إليهم؛ بقوله: إنك لعلى هدى مستقيم أي: وإنك في نسكك وشريعته لمستمكن من الهداية المستقيمة تمكين من يعلو على الهداية؛ فالتعبير بقوله (تعالى): "لعلى هدى ": إنك متمكن من هدايتك تمكن من كان فوق الهداية؛ مستمكنا منها؛ كالقائم عليها؛ والجالس عليها؛ ووصف - سبحانه - الهدى الذي استمكن منه - صلى الله عليه وسلم - واقتعده بالاستقامة؛ والاستقامة وصف للحق؛ ولكل هداية. [ ص: 5024 ] هذا هو الاحتمال الذي يكون النهي فيه موجها للنبي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صاحب رسالة الله (تعالى)؛ وحاملها؛ وهو المخاطب بتكليفات الرسالة؛ وليس المخالفون مخاطبين؛ إلا عن طريقه.

                                                          وقد ذكر المفسرون احتمالا آخر؛ ورجحه كثيرون؛ وهو أن يكون النهي للمخالفين المعترضين؛ ونراه بعيدا؛ وإذا كان الله ينهاه عن المنازعة; لأنه لا موضوع لها؛ إذ لكل دين نسكه وشريعته؛ وإن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة؛ ناسخة ما يخالفها؛ فقد نهاه أيضا عن الجدل معهم؛ فقال - عز من قائل -: وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون "الجدل ": إحكام فتل الحبل؛ وإحكام البناء؛ والجدال في مسائل الحق؛ والباطل؛ إحكام كل مجادل قوله ليستطيع أن يزيف الحق؛ أو أن يزيف كلام خصمه؛ وإنه شاع في قول الباطل؛ والمجادلة في الحق؛ وهذا النوع من الجدال من شأنه أن يبعثر الحق؛ ويشكك فيه؛ وقد كان الإمام مالك - رضي الله عنه - ينهى عن الجدل في الحقائق؛ وكان يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد أمر الله (تعالى) ألا يجادل المشركين واليهود؛ وأن يفوض أمورهم بعد أن تبين لهم الحق الذي يجب اتباعه؛ ودلائله؛ من آيات الله المتلوة والكونية؛ وأمره أن يقول لهم: فقل الله أعلم بما تعملون وهذا فيه تهديد لهم على عملهم؛ ومؤداه: لا تحاولوا تبرئتكم في أعمالكم بالملاحاة والمجادلة؛ فالله أعلم بعملكم.

                                                          وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه؛ فلا مفاضلة في علم الله (تعالى)؛ إنما المعنى أن الله يعلم بما تعملون علما ليس فوقه علم؛ وإن علم الله بأعمالكم سيبينه يوم القيامة؛ فقال - عز من قائل -: الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون إذا كان الله (تعالى) هو الذي يعلم عملهم علما ليس فوقه علم؛ فهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون؛ وخاطبهم الله (تعالى) بقوله: الله [ ص: 5025 ] يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون الخطاب للذين جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وأمره الله (تعالى) بالإعراض عنهم؛ وألا يلتفت إليهم؛ وهم كانوا مختلفين فيما بينهم؛ فاليهود مختلفون مع المشركين؛ واليهود مختلفون فيما بينهم في عقائدهم؛ فمنهم صدوقيون لا يؤمنون بالبعث؛ ومنهم ربانيون؛ ومنهم قراء؛ والمشركون واليهود مختلفون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والله (تعالى) يحكم بين هؤلاء أجمعين؛ وإن الجحيم مأوى الكافرين به.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية