(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )
قوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) .
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح ذكر في هذه الآية حكما من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة ، وجب قبول ذلك الصلح ؛ لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالا من الإيمان ، فلما بنينا أمر الإيمان على الظاهر لا على الباطن ، فههنا أولى ولذلك قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وإن يريدوا ) المراد من تقدم ذكره في قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=61وإن جنحوا للسلم ) .
فإن قيل : أليس قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=9001_28979وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم ) [ الأنفال : 58 ] أي أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية ؟
قلنا : قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وإما تخافن من قوم خيانة ) محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها ، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة ، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك ، قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62فإن حسبك الله ) أي فالله يكفيك ، وهو حسبك وسواء قولك : هذا يكفيني ، وهذا حسبي .(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62هو الذي أيدك بنصره ) . قال المفسرون : يريد قواك وأعانك بنصره يوم
بدر ، وأقول : هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته ، ساعة فساعة ، كان أمرا إلهيا وتدبيرا
[ ص: 151 ] علويا ، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل ، ثم قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وبالمؤمنين ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يعني الأنصار .
فإن قيل : لما قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62هو الذي أيدك بنصره ) فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتى قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وبالمؤمنين ) .
قلنا :
nindex.php?page=treesubj&link=19877التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين :
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة .
والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة .
فالأول هو المراد من قوله أيدك بنصره ، والثاني هو المراد من قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وبالمؤمنين ) ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين ، فقال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63nindex.php?page=treesubj&link=29703_28979لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه ، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا ، وعادوا أعوانا ، وقيل : هم
الأوس والخزرج ، فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة ، ثم زالت الضغائن ، وحصلت الألفة والمحبة ، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وصارت تلك
nindex.php?page=treesubj&link=29629_28752معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28785أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلو كان الإيمان فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى لكانت المحبة المرتبة عليه فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى ، وذلك على خلاف صريح الآية ، قال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل ، ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته ، فكذا ههنا .
والجواب : كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز ، وأيضا كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار ، مثل حصولها في حق المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضا فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية ، وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفا بالرغبة بدلا عن النفرة وبالعكس ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح ، فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم ، وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود ، فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب .
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول في
nindex.php?page=treesubj&link=30578_29244_28632الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على البعض ، فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر ، زالت الخصومات ، وارتفعت الخشونات ، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة .
واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن
nindex.php?page=treesubj&link=29416المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال ، فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص ، فمتى كان هذا التصور حاصلا كانت المحبة حاصلة ، ومتى حصل
[ ص: 152 ] تصوير الشر والبغضاء : كانت النفرة حاصلة ، ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين :
أحدهما : الخيرات والكمالات الباقية الدائمة ، المبرأة عن جهات التغيير والتبديل ، وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية .
والثاني : وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة ، وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية ، فإنها سريعة التغيير والتبدل ، كالزئبق ينتقل من حال إلى حال ، فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالا عظيما فيحبه ، ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه ، ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مرارا ؛ لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله ، والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية ، وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال ، فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي الزوال والانتقال .
إذا عرفت هذا فنقول :
nindex.php?page=treesubj&link=29416الموجب للمحبة والمودة ، إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال ، لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال ، وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال ، فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال ، كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال ، وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال ، كانت تلك المحبة أيضا باقية آمنة من التغير ، لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [الزخرف : 67] .
إذا عرفت هذا فنقول : العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة ، وكانت محبتهم معللة بهذه العلة ، فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال ، وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن ، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، زالت الخصومة والخشونة عنهم ، وعادوا إخوانا متوافقين ، ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضا ، ومقاتلة بعضهم مع بعض ، فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63إنه عزيز حكيم ) أي قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ، ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقا للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
قَوْلُهُ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالصُّلْحِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الصُّلْحِ وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنْ صَالَحُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ ، وَجَبَ قَبُولُ ذَلِكَ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَكُونُ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِيمَانِ ، فَلَمَّا بَنَيْنَا أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْبَاطِنِ ، فَهَهُنَا أَوْلَى وَلِذَلِكَ قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَإِنْ يُرِيدُوا ) الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=61وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ) .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=9001_28979وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ) [ الْأَنْفَالِ : 58 ] أَيْ أَظْهِرْ نَقْضَ ذَلِكَ الْعَهْدِ ، وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؟
قُلْنَا : قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً ) مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَأَكَّدَ ذَلِكَ الْخَوْفُ بِأَمَارَاتٍ قَوِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهَا ، وَتُحْمَلُ هَذِهِ الْمُخَادَعَةُ عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ نَوْعُ نِفَاقٍ وَتَزْوِيرٍ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ قَاصِدِينَ لِلشَّرِّ وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ ، بَلْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الثَّبَاتَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ، قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ) أَيْ فَاللَّهُ يَكْفِيكَ ، وَهُوَ حَسْبُكَ وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ : هَذَا يَكْفِينِي ، وَهَذَا حَسْبِي .(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : يُرِيدُ قَوَّاكَ وَأَعَانَكَ بِنَصْرِهِ يَوْمَ
بَدْرٍ ، وَأَقُولُ : هَذَا التَّقْيِيدُ خَطَأٌ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَوَّلِ حَيَاتِهِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ وَفَاتِهِ ، سَاعَةً فَسَاعَةً ، كَانَ أَمْرًا إِلَهِيًّا وَتَدْبِيرًا
[ ص: 151 ] عُلْوِيًّا ، وَمَا كَانَ لِكَسْبِ الْخَلْقِ فِيهِ مَدْخَلٌ ، ثُمَّ قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الْأَنْصَارَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ) فَأَيُّ حَاجَةٍ مَعَ نَصْرِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، حَتَّى قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .
قُلْنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=19877التَّأْيِيدُ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ لَكِنَّهُ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مُعْتَادَةٍ .
وَالثَّانِي : مَا يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مُعْتَادَةٍ .
فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ أَيَّدَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63nindex.php?page=treesubj&link=29703_28979لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ أَنَفَتُهُمْ شَدِيدَةٌ وَحَمِيَّتُهُمْ عَظِيمَةٌ حَتَّى لَوْ لُطِمَ رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَطْمَةً قَاتَلَ عَنْهُ قَبِيلَتُهُ حَتَّى يُدْرِكُوا ثَأْرَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْقَلَبُوا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى قَاتَلَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَابْنَهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَصَارُوا أَنْصَارًا ، وَعَادُوا أَعْوَانًا ، وَقِيلَ : هُمُ
الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، فَإِنَّ الْخُصُومَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ شَدِيدَةً وَالْمُحَارَبَةُ دَائِمَةً ، ثُمَّ زَالَتِ الضَّغَائِنُ ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ ، فَإِزَالَةُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ وَتَبْدِيلُهَا بِالْمَحَبَّةِ الْقَوِيَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ التَّامَّةِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَصَارَتْ تِلْكَ
nindex.php?page=treesubj&link=29629_28752مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28785أَحْوَالَ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَامَاتِ كُلُّهَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأُلْفَةَ وَالْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ الشَّدِيدَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْآيَةِ ، قَالَ الْقَاضِي : لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً فَسَاعَةً ، لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ ، فَأُضِيفَتْ تِلْكَ الْمُخَالَصَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ ، لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وَتَرْبِيَتِهِ ، فَكَذَا هَهُنَا .
وَالْجَوَابُ : كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمْلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ ، وَأَيْضًا كُلُّ هَذِهِ الْأَلْطَافِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ، مِثْلَ حُصُولِهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى الْأَلْطَافِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَائِدَةٌ ، وَأَيْضًا فَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُقَوٍّ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ مَوْصُوفًا بِالرَّغْبَةِ بَدَلًا عَنِ النَّفْرَةِ وَبِالْعَكْسِ ، فَرُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعَبْدُ عَادَ التَّقْسِيمُ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَكِّدٌ بِصَرِيحِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30578_29244_28632الْخُصُومَةِ الدَّائِمَةِ وَالْمُحَارَبَةِ الشَّدِيدَةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ ، فَلَمَّا آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، زَالَتِ الْخُصُومَاتُ ، وَارْتَفَعَتِ الْخُشُونَاتُ ، وَحَصَلَتِ الْمَوَدَّةُ التَّامَّةُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29416الْمَحَبَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَصَوُّرِ حُصُولِ خَيْرٍ وَكَمَالٍ ، فَالْمَحَبَّةُ حَالَةٌ مُعَلَّلَةٌ بِهَذَا التَّصَوُّرِ الْمَخْصُوصِ ، فَمَتَى كَانَ هَذَا التَّصَوُّرُ حَاصِلًا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً ، وَمَتَى حَصَلَ
[ ص: 152 ] تَصْوِيرُ الشَّرِّ وَالْبَغْضَاءِ : كَانَتِ النَّفْرَةُ حَاصِلَةً ، ثُمَّ إِنَّ الْخَيْرَاتِ وَالْكَمَالَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْخَيْرَاتُ وَالْكَمَالَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ ، الْمُبَرَّأَةُ عَنْ جِهَاتِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ الْكَمَالَاتُ الْمُتَبَدِّلَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ ، وَهِيَ الْكَمَالَاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ ، فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ التَّغْيِيرِ وَالتَّبَدُّلِ ، كَالزِّئْبَقِ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، فَالْإِنْسَانُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ لَهُ فِي صُحْبَةِ زَيْدٍ مَالًا عَظِيمًا فَيُحِبُّهُ ، ثُمَّ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَحْصُلُ فَيُبْغِضُهُ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْعَاشِقَ وَالْمَعْشُوقَ رُبَّمَا حَصَلَتِ الرَّغْبَةُ وَالنَّفْرَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْشُوقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْعَاشِقَ لِمَالِهِ ، وَالْعَاشِقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْمَعْشُوقَ لِأَجْلِ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُسْتَعِدَّانِ لِلتَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ ، فَلَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَدَاوَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ بَاقِيَتَيْنِ بَلْ كَانَتَا سَرِيعَتَيِ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29416الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ ، إِنْ كَانَ طَلَبَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ ، لِأَجْلِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَابِعَةٌ لِتَصَوُّرِ الْكَمَالِ ، وَتَصَوُّرُ الْكَمَالِ تَابِعٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْكَمَالُ سَرِيعَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ ، كَانَتْ مَعْلُولَاتُهُ سَرِيعَةَ التَّبَدُّلِ وَالزَّوَالِ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ تَصَوُّرَ الْكَمَالَاتِ الْبَاقِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ ، كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا بَاقِيَةً آمِنَةً مِنَ التَّغَيُّرِ ، لِأَنَّ حَالَ الْمَعْلُولِ فِي الْبَقَاءِ وَالتَّبَدُّلِ تَبَعٌ لِحَالَةِ الْعِلَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) [الزُّخْرُفِ : 67] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْعَرَبُ كَانُوا قَبْلَ مَقْدِمِ الرَّسُولِ طَالِبِينَ لِلْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُفَاخَرَةِ ، وَكَانَتْ مَحَبَّتُهُمْ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ ، وَكَانُوا بِأَدْنَى سَبَبٍ يَقَعُونَ فِي الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ ، زَالَتِ الْخُصُومَةُ وَالْخُشُونَةُ عَنْهُمْ ، وَعَادُوا إِخْوَانًا مُتَوَافِقِينَ ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْفَتَحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِهَا عَادُوا إِلَى مُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=63إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أَيْ قَادِرٌ قَاهِرٌ ، يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِي الْقُلُوبِ ، وَيُقَلِّبُهَا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ ، وَمِنَ النَّفْرَةِ إِلَى الرَّغْبَةِ ، حَكِيمٌ بِفِعْلِ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ ، أَوْ مُطَابِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالصَّوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ .