الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين ؛ بعد أن ذكر لهم أن العاقل يعادي عبادة الأوثان؛ ولا يرضى إلا بعبادة الديان؛ أخذ إبراهيم يصف ربوبية الله (تعالى) له في حياته؛ من خلقه؛ إلى موته؛ ثم بعثه؛ وأنها منبه دائم إلى استحقاقه وحده العبادة؛ وأنه لا إله إلا هو؛ وفي ذلك توجيه للعرب؛ سلالة إبراهيم - عليه السلام - إلى نعمه (تعالى) التي تغمرهم في حياتهم اليومية؛ والمستمرة؛ ما داموا في قيد الحياة؛ فذكر أول نعمة؛ وهي الخلق والهداية؛ الذي خلقني فهو يهدين ؛ النون مكسورة؛ إشارة إلى أن ياء المتكلم مطوية في الكلام طيا؛ والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ فالهداية مترتبة على الخلق والتكوين؛ وقد يقول قائل: كيف يكون ذلك؛ والناس منهم شقي ضال؛ وسعيد مهدي؛ ولو كانت الهداية مترتبة على الخلق لكان الناس جميعا في هداية غير مقطوعة ولا ممنوعة؟ والجواب عن ذلك أن الله (تعالى) خلق الناس مختارين؛ يريدون؛ ويفعلون؛ ويتحملون تبعات أعمالهم؛ إن شرا فشر؛ وإن خيرا فخير؛ ولكنه هيأ فيهم أسباب الهداية؛ ودعاهم إليها؛ فقال: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ؛ وقال (تعالى): وهديناه النجدين ؛ نجد الخير؛ ونجد الشر؛ وإذا كان - سبحانه - قد خلق في النفس المسلكين؛ بالاستعداد لهما؛ فإنها إذا سلكت طريق الهداية؛ فالهادي هو الله - سبحانه وتعالى بما خلق من أسباب الهداية؛ ولذا قال (تعالى): ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ؛ ومن يضل يسلك مختارا طريق الضلالة.

                                                          وإذا كان إبراهيم الرسول خليل الله؛ فإنه سلك طريق الهداية؛ فالله (تعالى) أرسله هاديا مرشدا؛ وجعله من أولي العزم من الرسل. [ ص: 5368 ] والنعمة الثانية ذكرها إبراهيم بقوله (تعالى) - كما حكى الله (تعالى) عنه -: والذي هو يطعمني ويسقين ؛ هذه نعمة أخرى من مظاهر الربوبية العالية؛ وهي أنه يطعم عباده؛ أي أنه - سبحانه وتعالى - هيأ لهم أسباب الطعام؛ وأسباب الشراب؛ فطعام الإنسان لحم شهي؛ أو سمك طري؛ أو خبز؛ أو ثمر جني؛ وكل ذلك من الله؛ فهو الذي أنبت النبات؛ وأثمر الغراس؛ وتغذى من النبات الأنعام؛ وهو - سبحانه - الذي خلق الأنهار والبحار التي تعيش فيها الأسماك؛ وهو الذي ينزل الأمطار؛ فيشرب منها الإنسان والحيوان؛ وهكذا هو الذي يطعم ويسقي؛ بتضافر الأسباب سببا بعد سبب.

                                                          والنعمة الثالثة نعمة الشفاء من المرض؛ وحكى الله (تعالى) فيها قول إبراهيم: وإذا مرضت فهو يشفين ؛ وقد ذكر المرض وشفاء الله (تعالى) منه بعد الطعام والسقي؛ للإشارة إلى أن بعض الأمراض سببها الإفراط في الطعام؛ كما ورد في بعض الآثار: " المعدة بيت الداء؛ والحمية رأس الدواء " ؛ ومهما يكن من الطب والعلاج؛ فالشفاء دائما من الله؛ واهب القوى؛ والقادر على كل شيء؛ وكثيرا ما يقول الطبيب؛ وقد عجز: إن الشفاء بمعجزة؛ ويفوض الأمر إلى الله (تعالى) القادر على كل شيء.

                                                          الأمر الرابع الذي تبدو فيه ربوبية الله (تعالى) الكاملة: والذي يميتني ثم يحيين ؛ هذا شعور قوي بكمال الربوبية من خليل الله (تعالى) إبراهيم - عليه السلام -؛ فهو وحده الذي يميت؛ ولو كان الإنسان في بروج مشيدة؛ وللناس آجال؛ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؛ وإنه بعد الموت البعث؛ وهو الحياة الأخرى الجديرة بأن تكون الحياة حقا وصدقا؛ كما قال (تعالى): وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ؛ وعطف بـ " ثم " ؛ في موضعها؛ لأن البعث لا يكون عقب الموت؛ بل يكون بينهما تراخ في الزمن حسا ومعنى؛ أما الحس فظاهر؛ وأما المعنوي فهو التفاوت بين حياة لاغية مكدودة؛ وحياة بالنسبة لمثل خليل الله (تعالى) حياة هادئة لا لغوب فيها؛ بل هي جنات النعيم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية