الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ويظهر أن عادا كانوا يعنون بالبناء والتشييد؛ ولذا قال لهم نبيهم: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون ؛ الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع؛ إذ إنهم بنوا فعلا؛ و " الريع " : اسم جنس جمعي لـ " ريعة " ؛ وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة؛ أو ياء النسبة؛ و " الريع " : ما ارتفع من الأرض؛ وقيل: أبراج الحمام؛ لأنها تبنى على مرتفع؛ وتكون [ ص: 5384 ] مرتفعة؛ و " آية " ؛ معناها: علامة؛ وليس المراد منها آية الكون؛ أو الكتاب؛ بل المراد مطلق علامة؛ ومعناها هنا أنهم اتخذوا علامات للطرقات في الجبال؛ أو فجاج الجبال؛ وكانوا يتخذونها ليهتدوا في البر؛ وفي السير؛ فيتعرفوا بها الطرقات حيث ساروا؛ ووجه العبث في بنائها أنهم يغالون في الارتفاع بها مفاخرة؛ فهم يعيثون؛ ولا يكتفون بقدر الحاجة؛ وكل ما يزيد عن قدر الحاجة يكون عبثا؛ وكل ما يدفع إلى البطر فهو عبث؛ أيا كان نوعه.

                                                          وذكر الزمخشري أن العبث فيها أنه لا حاجة إلى هذه العلامات لأن تهديهم إلى الطرق؛ وكان لهم بها علم؛ وقد قال (تعالى): وعلامات وبالنجم هم يهتدون

                                                          وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ؛ أي: تبنون أماكن وقصورا مشيدة مصنوعة صناعة محكومة تبقى على الأزمان؛ وتناطح الدهر؛ لعلكم تخلدون؛ أي: ترجون لها أن تخلدوا فيها؛ و " المصانع " ؛ جمع " مصنع " ؛ وهو مكان الصنع الجيد؛ و " الصنع " : إتقان العمل؛ ويقال للحاذق المجيد: " صنع " ؛ بفتحتين؛ وللحاذقة المجيدة: " صناع " ؛ ويقال: " صناع " ؛ فالمصانع: القصور المجود بناؤها؛ المزخرف طلاؤها؛ وكأنهم يرجون أن تكون جنتهم التي يخلدون فيها.

                                                          وقد بين - سبحانه - أنهم يبنون؛ ويستعلون عابثين؛ ويبنون القصور المشيدة لعلهم يخلدون؛ وذلك لتكون لهم السلطة والقهر والغلب؛ ولذا قال في وصفهم - عز من قائل -: وإذا بطشتم بطشتم جبارين ؛ الخطاب لعاد؛ قوم هود؛ وهو وصف لحالهم؛ وهو أنهم جبابرة في طغيانهم؛ والتجبر يدفع إلى الأذى والسيطرة بالباطل؛ والتدابر؛ والتقاطع؛ وإن هذه حالهم؛ القوي فيهم يأكل الضعفاء؛ فالحقوق مهضومة؛ والباطل رافع رأسه فيهم؛ [ ص: 5385 ] وخاطبهم بذلك نبيهم هود - عليه السلام -؛ عن ربه العليم الحكيم؛ و " البطش " : السطو؛ والعسف قتلا بالسيوف؛ أو ضربا بالسياط؛ و " الجبار " : المتسلط العاتي؛ وقد نفى الله (تعالى) عن نبيه أن يكون جبارا؛ فقال: وما أنت عليهم بجبار ؛ ومعنى النص: إنكم يا عاد؛ طغاة جبارون؛ إذا بطشتم عاسفين كان بطشكم بطش جبارين؛ يسومون الضعفاء الذل والهوان.

                                                          ويجب أن تتخلفوا عن هذا الوصف الذميم؛ وترفقوا بأنفسكم؛ ولذا قال لهم هود؛ ذاكرا عن ربه: فاتقوا الله وأطيعون ؛ " ؛ الفاء للإفصاح؛ أي: إذا كنتم كذلك؛ غير مترفقين؛ فاتقوا الله وأطيعون ؛ أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية؛ واجعلوا التقوى شعاركم؛ يذهب غروركم بالقوة؛ وأطيعون فيما أنقل لكم من شرع الله (تعالى)؛ والنظام المحكم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية