الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقدمنا أي عمدنا وقصدنا، كما روي عن ابن عباس ، وأخرجه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد إلى ما عملوا في الدنيا من عمل فخيم كصلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقري ضعيف، ومن على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها، والجار والمجرور بيان لما، وصحة البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في إن نظن إلا ظنا لكن التنكير هاهنا للتفخيم كما أشرنا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول، أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى: فجعلناه هباء مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى، وهو على ما أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي حاتم ، عن علي - كرم الله تعالى وجهه - وهج الغبار يسطع ثم يذهب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج جماعة، عن مجاهد ، والحسن ، وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة، وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين، قال الراغب : الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة، ويقال: هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع، ووصف بقوله تعالى: منثورا مبالغة في إلغاء أعمالهم، فإن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب، فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعله متناثرا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلا، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال، ومنه قول الخنساء :


                                                                                                                                                                                                                                      أغر أبلج تأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار



                                                                                                                                                                                                                                      حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار، وقيل: وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة، فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل، وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لـ(جعل) وهو مراد من قال: مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، ونظير ذلك قوله تعالى: كونوا قردة خاسئين أي: جامعين للمسخ والخسء، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر إن، وقياس قوله: أن يمنع أن يكون لـ(جعل) مفعول ثالث، ومع هذا الظاهر الوصفية، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها [ ص: 8 ] في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر، ولم يترك لها من عين ولا أثر، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال- قدم- بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة، فلا إشكال على ما قيل، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى: وجاء ربك وقوله سبحانه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية، ولعله من هنا قيل: إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات، والقلب إلى التأويل فيها أميل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه، ولا يأبى ذلك السلف

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية