الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أرأيت من اتخذ إلهه هواه تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمآل، وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه، والظاهر أن - رأى- بصرية ومن مفعولها، وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة ( واتخذ ) متعدية لمفعولين أولهما ( هواه ) وثانيهما ( إلهه ) وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث إن الإله يستحق التعظيم والتقديم - كما قيل - أي: أرأيت الذي جعل هواه إلها لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية، على معنى: انظر إليه وتعجب منه، وقال ابن المنير : في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر؛ فإن الكلام قبل دخول ( أرأيت ) ، ( واتخذ ) الأصل فيه (هواه إلهه) على أن (هواه) مبتدأ خبره (إلهه) فإذا قيل: (إلهه هواه) كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر، فيكون معنى الآية حينئذ: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الفرائد: تقديم المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ، والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبرا فالمقدم هو المبتدأ، فمن جعل ما هنا نظير قولك: (علمت منطلقا زيدا) فقد غفل عن هذا، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم ( إلهه ) يشعر بأنه لا بد من إله، فهو كقولك: اتخذ ابنه غلامه، فإنه يشعر بأن له ابنا ولا يشعر بأن له غلاما، فهذا فائدة تقديم إلهه على هواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب ذلك الطيبي فقال: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم، وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ، لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى، فإذا قيل: (زيد الأسد) فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع، فإذا جعلته مبتدأ في قولك: (الأسد زيد) فقد أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القار فيه، فالمشبه به هاهنا (الإله) والمشبه (الهوى) لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله فقدم المشبه به الأصلي، وأوقع مشبها ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى: قالوا إنما البيع مثل الربا ولمح صاحب المفتاح إلى هذا المعنى في كتابه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله: (اتخذ ابنه غلامه) جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله، وقوله: (اتخذ غلامه ابنه) جعل غلامه كابنه مكرما مدللا اهـ، وأنت تعلم ما في قوله: (إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ) فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة، والقرينة هنا قائمة على أن ( إلهه ) الخبر وهي عقلية؛ لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال شيخ الإسلام: من توهم أنهما على الترتيب بناء على [ ص: 24 ] تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة، وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ «آلهة» منونة على الجمع، وجعل ذلك على التقديم والتأخير، والمعنى: جعل كل جنس من هواه إلها، وذكر أيضا أن ابن هرمز قرأ «إلهة» على وزن فعالة، وهو أيضا من التقديم والتأخير، أي جعل هواه إلهة بمعنى مألوهة، أي: معبودة، والهاء للمبالغة فلذلك صرفت، وقيل: بل الإلاهة الشمس، ويقال: ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث، لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف، قاله صاحب اللوامح وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية نزلت - على ما قيل - في الحارث بن قيس السهمي ، كان كلما هوى حجرا عبده، وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أنه قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر في الجاهلية فإذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر، فأنزل الله تعالى أرأيت ... إلخ، وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال في الآية: كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى ، فالآية شاملة لمن عبد غير الله تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن، فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له: أفي أهل القبلة شرك ؟ فقال: نعم، المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله تعالى، وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية، والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج الطبراني ، وأبو نعيم في (الحلية) عن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله تعالى أعظم عند الله - عز وجل - من هوى يتبع » ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره الله تعالى لعباده، وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر، وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولا أوليا أفأنت تكون عليه وكيلا استئناف مسوق لاستبعاد كونه - صلى الله عليه وسلم - حفيظا على هذا المتخذ، يزجره عما هو عليه من الضلال، ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها، وإنكار له، والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له، كأنه قيل: أبعدما شاهدت غلوه في طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى، وجوز أن تكون رأى علمية وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية