الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1723 [ ص: 151 ] حديث ثالث لابن شهاب عن أنس

مالك عن ابن شهاب عن أنس ( بن مالك ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابي ، وعن يساره أبو بكر فشرب ، ثم أعطى الأعرابي ، وقال : الأيمن فالأيمن .

التالي السابق


حدثنا خلف بن قاسم حدثنا العباس بن مطروح حدثنا ( محمد بن جعفر الوكيعي وحدثنا خلف حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن محمد الحلبي حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد ) وحدثنا خلف حدثنا عباس بن محمد بن سليمان بن يحيى الضبي البغدادي حدثنا محمد بن جعفر بن زريق قالوا : حدثنا هشام بن عمار حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابي ، وعن يساره أبو بكر فشرب ، ثم أعطى الأعرابي ، وقال : الأيمن فالأيمن .

لم يختلف الرواة عن مالك [ ص: 152 ] في إسناد هذا الحديث ، ولا في ألفاظه فيما علمت ، وقد رواه ابن عيينة عن ابن شهاب فأحسن سياقته ، وذكر فيه ألفاظا لم يذكرها مالك .

أخبرنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي قال : حدثنا سعدان بن نصر والحسن بن محمد قالا : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري سمع أنس بن مالك يقول : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وأنا ابن عشر سنين ، ومات وأنا ابن عشرين سنة فكن أمهاتي يحثثنني على خدمته , فدخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - دارنا فحلبنا له من شاة لنا داجن فشيب له من ماء بير في الدار وأبو بكر عن شماله وأعرابي عن يمينه فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر ناحية فقال عمر : أعط أبا بكر . فناول الأعرابي ، وقال : الأيمن فالأيمن .

وقد روى هذا الحديث محمد بن الوليد البسري عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن أنس مثل رواية ابن عيينة عن الزهري سواء , وزاد فيه ( وقال ) : الأيمن فالأيمن ، فمضت سنة .

[ ص: 153 ] قال الدارقطني : ولم يرو ( أحد ) هذا الحديث ، عن مالك بهذه الألفاظ إلا البسري ، عن ابن مهدي عنه ، وإن كان أحفظ فقد أغرب بألفاظ عدة ليست في الموطإ ، منها ( قوله ) قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المدينة ) وأنا ابن عشر سنين ، ومات وأنا ابن عشرين سنة وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته , فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - دارنا فحلبنا له من شاة لنا داجن . فكل هذه الألفاظ ليست في الموطإ , وقوله أيضا : وعمر ناحية , فقال عمر : أعط أبا بكر . ليست في الموطإ , وقوله : فمضت سنة . ليس في الموطإ ، ولا في حديث ابن عيينة أيضا ، وسائر الألفاظ كلها محفوظة عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وقد بلغني عن بعض من تكلف الكلام في هذا الشأن أنه قال : الأعرابي في هذا الحديث هو خالد بن الوليد وهذا منه إغفال شديد وإقدام على القول بالظن الذي هو أكذب الحديث ، أو تقليد لمن سلك في ذلك سبيله ، ووهم بين وغلط واضح من وجهين : أحدهما أن الأعرابي كان عن يمينه - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس هذا وخالد بن الوليد كان في قصة ابن عباس عن يساره عليه السلام وابن عباس عن يمينه ، والآخر أنه اشتبه ( عليه ) [ ص: 154 ] حديث سهل بن سعد في الأشياخ مع الغلام مع حديث أنس في أبي بكر والأعرابي ، وإنما دخلت عليه الشبهة في ذلك - والله أعلم - لأن في حديث سهل وعن يمينه غلام ، وعن يساره الأشياخ ، والأشياخ ( أحدهم خالد بن الوليد وقصة ابن عباس وخالد غير قصة أبي بكر والأعرابي ، وحديث أنس غير حديث سهل بن سعد فقف على ذلك ، ولا تلتفت إلى سواه ، وسنذكر حديث سهل في باب أبي حازم إن شاء الله ) ( وقد روي مفسرا : عن يمينه ابن عباس وعن يساره خالد بن الوليد وسيأتي ذكر ذلك الحديث في باب أبي حازم - إن شاء الله تعالى - والله المستعان ) .

في هذا الحديث من رواية مالك من الفقه إباحة شرب اللبن ، وأن ذلك ليس من الإسراف ، لأنه مستحيل أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكله أو شربه سرفا ، وفيه دليل على أن من قدم إليه شيء يأكله ، أو يشربه حلالا ، فليس عليه أن يسأل : من أين هو ؟ وما أصله ؟ إذا علم طيب مكسب صاحبه في الأغلب من أمره , ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل الذي أتاه باللبن : من أين لك هذا ؟ وفيه إجازة خلط اللبن بالماء لمن أراد شربه ، ولم يرد به البيع ، لأن قوله : " قد شيب بماء " أي ( قد ) خلط بماء ( ومعنى ) الشوب الخلط , وجمعه أشواب ، وإنما قلنا إذا [ ص: 155 ] لم يرد به البيع ، لأن خلط الماء باللبن غش ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من غشنا فليس منا ، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أهراق لبنا قد شيب بماء على مريد بيعه والغش به ، وفيه مجالسة أهل البادية وتقريبهم إذا كان لذلك وجه ، وفيه أن المجلس عن يمين الرجل وعن يساره سواء ، إذ لو كان الفضل عن يمين الرجل لما آثر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابيا على أبي بكر ويحتمل أن يكون ذلك ( أيضا ) دليلا على أن من سبق ( من ) مجلس العلم إلى مكان كان أولى به من غيره كائنا من كان , ودليلا على أنه لا يقام أحد من مجلسه لأحد ، وإن كان أفضل منه ، وفيه من أدب المواكلة والمجالسة أن الرجل إذا أكل ، أو شرب ناول فضله الذي على يمينه كائنا من كان ، وإن كان مفضولا وكان الذي على يساره فاضلا ، وفي القياس على هذا النص في هذا الحديث أن لو كان كافرا كان الأدب والسنة أن يؤثر من على اليمين أبدا على من كان على اليسار بفضل الشراب ، والله أعلم .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في أمره كله كذلك ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 156 ] وفيه مواساة الجلساء فيما يأتي صاحب المجلس من الهدايا ، وقد روي مرفوعا : جلساؤكم شركاؤكم في الهدية .

وهذا إن صح فعلى الندب إلى التحاب وبر الجليس وإكرام الصديق ، وهذا كله من محاسن الأخلاق ، وقد حكى بعض الناس عن مالك في هذا الحديث شيئا خلاف ما يوجبه ظاهره ، ولا يصح ، وبالله ( العصمة ) والتوفيق .

وروى مندل بن علي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أتته هدية ، وعنده قوم فهم شركاؤه فيها .




الخدمات العلمية