الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  آية أصناف الحيوانات

                                                                  اعلم أن من آياته تعالى أصناف الحيوانات وانقسامها إلى ما يطير وإلى ما يمشي ، وانقسام ما يمشي إلى ما يمشي على رجلين وعلى أربع وعلى عشر وعلى مائة كما يشاهد في بعض الحشرات ، ثم انقسامها في المنافع والصور والأشكال والأخلاق والطباع . فانظر إلى طيور الجو وإلى وحوش البر وإلى البهائم الأهلية ترى فيها من العجائب ما لا تشك معه في عظمة خالقها وقدرة مقدرها وحكمة مصورها ، وكيف يمكن أن يستقصى ذلك ؟ بل لو أردنا أن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت وهي من صغار الحيوانات في بنائها بيتها وفي جمعها غذاءها ، وفي إلفها لزوجها ، وفي ادخارها لنفسها ، وفي حذقها في هندسة بيتها ، وفي هدايتها إلى حاجاتها لم نقدر على ذلك ، وكل يشهد بشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته لفاطره الحكيم وخالقه القادر العليم ، فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلا عن سائر الحيوانات .

                                                                  وهذا الباب أيضا لا حصر له ، فإن الحيوانات وأشكالها وطباعها غير محصورة ، وإنما سقط تعجب القلوب منها لأنسها بكثرة المشاهدة . نعم إذا رأى حيوانا ولو دودا تجدد تعجبه وقال : " سبحان الله ما أعجبه " ! والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب من نفسه ، بل لو نظر إلى الأنعام التي ألفها ، ونظر إلى أشكالها وصورها ، ثم إلى منافعها وفوائدها من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها التي جعلها الله لباسا لخلقه ، وأكنانا لهم في ظعنهم وإقامتهم ، وآنية لأشربتهم ، وأوعية لأعذيتهم ، وصوانا لأقدامهم ، وجعل ألبانها ولحومها أغذية لهم ، ثم جعل [ ص: 318 ] بعضها زينة للركوب ، وبعضها حاملة للأثقال قاطعة للبوادي والمفازات البعيدة لأكثر الناظر التعجب من حكمة خالقها ومصورها ، فإنه ما خلقها إلا بعلم محيط بجميع منافعها سابق على خلقه إياها . فسبحان من الأمور مكشوفة في علمه من غير تفكر ومن غير تأمل وتدبر ، ومن غير استعانة بوزير أو مشير فهو العليم الخبير الحكيم القدير ، فلقد استخرج بأقل القليل مما خلقه صدق الشهادة من قلوب العارفين بتوحيده ، فما للخلق إلا الإذعان لقهره وقدرته ، والاعتراف بربوبيته ، والإقرار بالعجز عن معرفة جلاله وعظمته ، فمن ذا الذي يحصي ثناء عليه ؟ بل هو كما أثنى على نفسه ، وإنما غاية معرفتنا الاعتراف بالعجز عن معرفته . فنسأل الله تعالى أن يكرمنا بهدايته بمنه ورأفته .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية