الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون .

الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة الآية ، وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات .

وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسبب [ ص: 35 ] حديث على حديث وليس تسببا على الوجود . وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ، والمقصود بالتفريع هو قوله فإذا مس الإنسان ضر دعانا ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد .

وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي الآية . وأن المراد بالإنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمراد جماعة من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي .

والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة .

وقوله إنما أوتيته على علم ، ( إنما ) فيه هي الكلمة المركبة من ( إن ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة ( ما ) النافية التي بعدها ( إلا ) الاستثنائية .

والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيته من نعمة إلا لعلم مني بطرق اكتسابه . وتركيز ضمير الغائب في قوله ( أوتيته ) عائد إلى ( نعمة ) على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإشارة كقوله تعالى بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم .

ومعنى قال إنما أوتيته على علم اعتقد ذلك فجرى في أقواله إذ القول على وفق الاعتقاد .

و ( على ) للتعليل ، أي لأجل علم ، أي بسبب علم . وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص في قوله على علم عندي فلم يذكر هنا ( عندي ) لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالا عظيما ، [ ص: 36 ] وهو علم خاص به ، وأما ما هنا العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير .

والمراد : العلم بطرق الكسب ودفع الضر كمثل حيل النوتي في هول البحر .

والمعنى : أنه يقول ذلك إذا ذكره بنعمة الله عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين ، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به .

و ( بل ) للإضراب الإبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم ، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم ، أي هي دالة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه ، لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إما شاكرا وإما كفورا ، والله عالم بهم وغني عن اختبارهم .

وضمير ( هي ) عائد إلى القول المستفاد من ( قال ) على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى ، وإنما أنث ضميره باعتبار الإخبار عنه بلفظ ( فتنة ) ، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى كلا إنها كلمة هو قائلها بعد قوله قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت والمراد : أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم . ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ( نعمة ) .

والاستدراك بقوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون ناشئ عن مضمون جملة إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون ، أنهم في فتنة بما أوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجة مساعيهم وحيلهم .

وضمير ( أكثرهم ) عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معادا ، والمراد به الناس ، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة [ ص: 37 ] الشكر وما يفضي إلى الكفر ، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم : إنما أوتيته على علم .

التالي السابق


الخدمات العلمية