الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 139 ] أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون )

                                                          * * *

                                                          المنافقون الذين جاوروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود ، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم . . أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونور الحق يشع بينهم ، فيرون مطالعه ، ويدركون مشارفه ، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا ، ويسمعونها بيانا ، والفطرة تحثهم ، وترشدهم ، والحق لا تخفى منه خافية ، فعندهم العلم أو أسبابه ، ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس ، يتركون الحق الأبلج ، وهو بين أيديهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، يتركون ذلك إلى الضلالة ، فهم قد استحبوا العمى على الهدى " ولذلك قال الله تبارك وتعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى الإشارة هنا إلى المنافقين الذين ذكرت أوصافهم ، والإشارة إلى المعرف بالوصف هي إشارة إلى الأوصاف ، وقد حملوها ، وبذلك تكون الأوصاف هي علة الحكم ، وسببه ، إنهم بإخفائهم الكفر ، وإعلانهم الإيمان ، وإفسادهم في الأرض ، وهم يزعمون إصلاحها ، وما فيهم من مرض النفاق الذي يعمي ويصم . وظنهم أنهم أهل الكمال ، وأن غيرهم أهل السفه والخسران .

                                                          إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها ، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى ، وتركهم إياه كمن يشتري الضلال بثمن هو أعلى الأثمان ، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال ، وهل يستوي [ ص: 140 ] الهدى والضلال في سوق الخير والفضيلة ، إنهما لا يستويان . شبه الله تعالى أولئك المنافقين بحال التاجر الذي يطلب الكاسد يقدم في سبيله الرابح ، وهنا يصح أن يكون تخريج الكلام بتشبيه إفرادي ، أو استعارة تمثيلية ، وعلى الاستعارة الإفرادية يكون تشبيه الضلالة التي يطلبونها بالبضائع المزجاة المردودة الكاسدة ، والهدى بالبضاعة الرائجة المطلوبة غير البائرة ، وبهذه الاستعارة يكون المعنى أنهم يتركون الطيب المطلوب ، ويأخذون بدله الرديء ، المردود ، فهم الخاسرون لا محالة ; لأنهم يأخذون شيئا لا خير فيه ، وفيه فساد كبير ، ويقدمون في سبيله أمرا كله خير ونور .

                                                          وإذا خرجنا على أنها استعارة تمثيلية ، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل ، يتركه ليستبدل به شيئا لا خير فيه ، وفيه فساد وضرر ، بحال تاجر يترك البضاعة الرائجة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لا ثمرة فيها . وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبه ، فقال : فما ربحت تجارتهم أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون ، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر ، وأي كسب فيها ؟ ! ونسب الربح إلى التجارة ، وهي محل التصرف ، وذلك تعبير بليغ كقولك : نهار صائم وليل قائم ، وذلك من قبل المبالغة في الصوم والمبالغة في الصلاة ، وإنما قوله : فما ربحت تجارتهم مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة ، لمن ترك الهداية وأخذ الضلال .

                                                          وقد أكد سبحانه ضلالهم ، ونفى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال : وما كانوا مهتدين لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس ، وفسدت ذلك الفساد ، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا ، فنفى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية ، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار ، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا ، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادت بالضلالة حتى إنه لا منفذ لنور يدخلها أبدا .

                                                          [ ص: 141 ] ولقد ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم ، وقد بدت لهم معالم الهداية ، وبزغ بين أيديهم نورها ، فقال تعالت كلماته : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم

                                                          المثل : الحال الشبيهة والشأن ، واستوقد النار ، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود ، فاستوقد معناها أوقد ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد ; لأن السين والتاء للطلب ، وهي تفيد المعالجة في الإقادة ، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة ، وضرب الأمثال في القرآن كثير ، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة ، وما يماثلها في الحياة ، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن ، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس .

                                                          والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم ، ويتوارثونهم ، ويعاملونهم ، ويوادونهم ، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم ، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين ، وهذه الأحوال التي تكنفهم ، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق ، وقد ربطتهم مودة الجار ، كل هذا ، حالهم فيه ، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها ، وتخرج عليه بنورها ، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها ، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها ، فبعد الضوء اللامع ، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لا يبصرون .

                                                          ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي ، وتشبيه تمثيلي .

                                                          أما الإفرادي ، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم ، ومجاورتهم ، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب ، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها ، ثم تخمد فيذهب الضوء ، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها ، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة ; لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا ، وأبعدوا فيه ، حتى لا مرجع إلى النور من بعد ، وشبه ما يحدثه [ ص: 142 ] النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك ، فيصبح العقل لا يدرك والنفس لا تتكشف ، بحال من لا يبصرونفإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، هذا تشبيه إفرادي ، إنه استعارة في أجزاء القول ، لا في جملته .

                                                          والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم ، وتحيط بهم ، ولكنهم لا ينتفعون بها - بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا ، وعالجوها حتى أضاءت فلما أضاءت ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت ، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لا يبصرون .

                                                          * * *

                                                          وفي النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها :

                                                          أولها - أنهم جماعة ، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا ، أو بتعاونهم ، ولكنه عبر بالمفرد ، فقال تعالت كلماته : كمثل الذي استوقد نارا فعبر بالمفرد ، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع ، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه :

                                                          (أ ) أن الوصول العبرة فيه بالصلة لا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى : وخضتم كالذي خاضوا

                                                          (ب ) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم ، وإن كانت الإضاءة للجميع ، والنفع بالضوء للجميع لا للذي استضاء وحده ; ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع ، إذ قال فلما أضاء لهم ، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور ، إذ هو يشيع ويعم ، ولا يخص من استقاد النار .

                                                          (جـ ) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد ، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران ، وسيرهم في ضلال ، فعبر بالذي كما في قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل [ ص: 143 ] أسفارا وكقوله تعالى : ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة .

                                                          وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارا مصدر لنار ، وهي مرادفة ; ولذا يقال في التصغير نويرة ، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار .

                                                          والإضاءة النور الشديد - كما قال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم ، فلم ينتفعوا به ، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به .

                                                          وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب " لما " في قوله تعالى : فلما أضاءت ما حوله فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما : أن الجواب هو قوله : ذهب الله بنورهم وذلك كلام صالح للجواب ، والثاني : أن الجواب محذوف دل عليه (ذهب الله بنورهم ) والمعنى ، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة .

                                                          وقوله تعالى : ذهب الله بنورهم معناها أذهب الله تعالى نورهم الذي كانوا يسيرون فيه ، ويمكن أن ينتفعوا به ; ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم ، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم .

                                                          وعبر سبحانه وتعالى بقوله : ذهب الله بنورهم لأن الباء للملابسة ، ومعناه هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره ، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال : " والفرق بين أذهبه ، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى معه ، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به . والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه ، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له .

                                                          ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لا يذهبه الله تعالى ، ولا يضيعه ، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم ، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري ، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة ، وهي النور الشديد ، وذلك بأنها إضاءة شديدة [ ص: 144 ] تعقبها ظلمة شديدة كقولهم : " للباطل صولة ثم يضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ، ثم تخفت " فهي إضاءة شديدة لهم ، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم ، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون .

                                                          وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لا يبصرون . وعبر بالجمع ، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق ، فإن المنافق في حال كذب مستمر ، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن ، وذلك كذب ، فحال المنافق كذب مستمر ، وهم يدهنون في القول ، وهم يمالئون الظلم ، ولا ينتصرون للحق ، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس ، وإرادة الأذى المستمر ، وكراهيتهم للناس ، ولذلك لما ذهب عنهم نور الحق ، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لا يبصرون حقا ، ولا يدركونه ، ونفى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع ، لتجدد العمى عليهم ، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة .

                                                          وعدم الإبصار هو عدم الإدراك ، فلهم آذان لا يسمعون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل .

                                                          وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير ، قد اشتروا الضلالة بالهدى ، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم ، ويصطحب النور ، ويستمسك به لغير ، فسدت عليهم أبواب الحق لا يسمعون إذا دعاهم ، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى ، فيبصروه ، ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله : صم بكم عمي

                                                          وإذا كانت لهم آذان فهم لا يسمعون بها ، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها ، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لا ينطقون بها في حق قط .

                                                          [ ص: 145 ] وكانت هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة ، ولكنها تشبيه صريح ، إذ إن قوله تعالى : صم بكم خبر لمبتدأ محذوف تقديره : " هم " أو : المنافقون ، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رءوسهم علوا واستكبارا إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة ، والبينات الناصعة ، لا يستبصرون فلهم قلوب لا يفقهون بها ، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به ، فهم كالبكم الذين لا ينطقون ، وهم لا يبصرون وإن كانت لهم أعين .

                                                          وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لا يرجعون ، أي لا يرجعون إلى الهداية ، بعد أن ساروا في الغواية ، أي هم وقوف عند الشر الذي وصلوا ; لأنه ليس وراءه شر ، بل هو الضلال البعيد ، وقد وصلوا إلى نهايته ، فماذا بعد النفاق من ضلال ، ولقد قال الزمخشري : إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية