الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          338 - مسألة : الشفق ، والفجر .

                                                                                                                                                                                          قال علي - : الفجر : فجران - والشفق : شفقان . والفجر الأول : هو المستطيل المستدق صاعدا في الفلك كذنب السرحان ، [ ص: 224 ] وتحدث بعده ظلمة في الأفق - : لا يحرم الأكل ولا الشرب على الصائم ; ولا يدخل به وقت صلاة الصبح - : هذا لا خلاف فيه من أحد من الأمة كلها . والآخر : هو البياض الذي يأخذ في عرض السماء في أفق المشرق في موضع طلوع الشمس في كل زمان ، ينتقل بانتقالها ، وهو مقدمة ضوئها ، ويزداد بياضه ; وربما كان فيه توريد بحمرة بديعة ، وبتبينه يدخل وقت الصوم ووقت الأذان لصلاة الصبح ووقت صلاتها . فأما دخول وقت الصلاة بتبينه ؟ فلا خلاف فيه من أحد من الأمة وأما الشفقان : فأحدهما الحمرة - والثاني : البياض ، فوقت المغرب عند ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن حي ، وداود وغيرهم - : يخرج ويدخل وقت صلاة العتمة بمغيب الحمرة ؟ وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق .

                                                                                                                                                                                          إلا أن أحمد قال : يستحب - في الحضر خاصة دون السفر - : أن لا يصلي إلا إذا غاب البياض ; ليكون على يقين من مغيب الحمرة فقد تواريها الجدران وقال أبو حنيفة ، وعبد الله بن المبارك ، والمزني ، وأبو ثور : لا يخرج وقت المغرب ولا يدخل وقت العتمة إلا بمغيب البياض ؟ قال علي : قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد خروج وقت المغرب ، ودخول وقت العتمة بمغيب نور الشفق ; والشفق : يقع في اللغة على الحمرة ، وعلى البياض .

                                                                                                                                                                                          فإذ ذلك كذلك ; فلا يجوز أن يخص قوله عليه السلام بغير نص ولا إجماع ; فوجب أنه إذا غاب ما يسمى شفقا فقد خرج وقت المغرب ، ودخل وقت العتمة ولم يقل عليه السلام قط : حتى يغيب كل ما يسمى شفقا ؟ .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 225 ] وبرهان قاطع ; وهو : أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد وقت العتمة بأن : أوله إذا غاب الشفق ، وآخره : ثلث الليل الأول ، وروي أيضا : نصف الليل .

                                                                                                                                                                                          وقد علم كل من له علم بالمطالع ، والمغارب ، ودوران الشمس : أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ; وهو الذي حد عليه السلام خروج أكثر الوقت فيه ، فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق ، الذي هو البياض بلا شك فإذ ذلك كذلك فلا قول أصلا إلا أنه : الحمرة بيقين ; إذ قد بطل كونه : البياض .

                                                                                                                                                                                          واحتج من قلد أبا حنيفة بأن قال : إذا صلينا عند غروب البياض فنحن على يقين - بإجماع - أننا قد صلينا عند الوقت ، وإن صلينا قبل ذلك ، فلم نصل بيقين إجماع في الوقت ؟ قال علي : هذا ليس شيئا ; لأنه إن التزموه ؟ أبطل عليهم جمهور مذهبهم فيقال : مثل هذا في الوضوء بالنبيذ ، وفي الاستنشاق ، والاستنثار ، وقراءة أم القرآن ، والطمأنينة ، وكل ما اختلف فيه مما يبطل الصوم والحج ، ومما تجب فيه الزكاة ؟ فيلزمهم أن لا يؤدوا عملا من الشريعة إلا حتى لا يختلف اثنان في أنهم قد أدوه كما أمروا .

                                                                                                                                                                                          ومع هذا لا يصح لهم من مذهبهم جزء من مائة جزء بلا شك وذكروا حديث النعمان بن بشير : { أنه عليه السلام كان يصلي العتمة لسقوط القمر ليلة ثالثة } .

                                                                                                                                                                                          ولو كان لكان أعظم حجة لنا ; لأن الشفق الأبيض يبقى بعد هذه مدة طويلة بلا خلاف ، واحتج بعضهم بالأثر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة إذا اسود الليل } وبقاء البياض يمنع من سواد الأفق .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا خطأ ; لأنه يصلي العتمة مع بياض القمر ، وهو أمنع من سواد [ ص: 226 ] الأفق على أصولهم : من البياض الباقي بعد الحمرة ، الذي لا يمنع من سواد الأفق ; لقلته ودقته ؟ .

                                                                                                                                                                                          وذكروا حديث النعمان بن بشير : { أنه عليه السلام كان يصلي العتمة لسقوط ليلة ثالثة } ، وهذا لا حجة لهم فيه ; لأننا لا نمنع من ذلك ، ولا من تأخيرها إلى نصف الليل ، بل هو أفضل ; وليس في هذا المنع من دخول وقتها قبل ذلك ؟ وذكروا حديثا ساقطا موضوعا ، فيه { أنه عليه السلام صلى العتمة قبل غروب الشفق } .

                                                                                                                                                                                          وهذا لو صح - ومعاذ الله من ذلك - لما كان فيه إلا جواز الصلاة قبل وقتها ; وهو خلاف قولهم وقولنا وذكروا عن ثعلب : أن الشفق : البياض قال علي : لسنا ننكر أن الشفق : البياض ، والشفق : الحمرة ; وليس ثعلب حجة في الشريعة إلا في نقله ; فهو ثقة ، وأما في رأيه فلا ؟ وأظرف ذلك احتجاج بعضهم : بأن الشفق : مشتق من الشفقة ، وهي الرقة ; ويقال : ثوب شفيق إذا كان رقيقا .

                                                                                                                                                                                          قالوا : والبياض أحق بهذا ; لأنها أجزاء رقيقة تبقى بعد الحمرة قال علي : وهذا هوس ناهيك به فإن قيل لهم : بل الحمرة أولى به ; لأنها تتولد عن الإشفاق والحياء ، وكل هذا تخليط هو في الهزل أدخل منه في الجد ؟ وقال بعضهم : لما كان وقت صلاة الفجر يدخل بالفجر الثاني : وجب أن يدخل وقت صلاة العتمة بالشفق الثاني ؟ فعورضوا بأنه لما كان الفجر فجرين ، وكان دخول وقت صلاة الفجر يدخل [ ص: 227 ] بالفجر الذي معه الحمرة : - وجب أن يكون دخول وقت العتمة بالشفق الذي معه الحمرة .

                                                                                                                                                                                          وقالوا أيضا : لما كانت الحمرة التي هي مقدمة طلوع الشمس لا تأثير لها في خروج وقت صلاة الفجر - : وجب أن يكون أيضا لا تأثير لها في خروج وقت المغرب ؟ فعورضوا بأنه لما كانت الطوالع : ثلاثة ، والغوارب ثلاثة ، وكان الحكم في دخول وقت صلاة الصبح للأوسط من الطوالع وجب أن يكون الحكم في دخول صلاة العتمة للأوسط من الغوارب وهذه كلها تخاليط ودعاوى فاسدة متكاذبة ; وإنما أوردناها ليعلم من أنعم الله تعالى عليه بأن هداه لإبطال القياس في الدين - : عظيم نعمة الله تعالى عليه في ذلك ; وليتبصر من غلط فقال به - وما توفيقنا إلا بالله تعالى .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية