الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 11 ] بسم الله الرحمن الرحيم

من حديث أمير المؤمنين أبي الحسن

علي بن أبي طالب
- عليه السلام -

أسيد بن صفوان عن علي - عليه السلام -

397 - أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن بركة بن محفوظ الديبقي - من أصل سماعه الصحيح قبل تغيره - قلت له : أخبركم أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري - قراءة عليه وأنت تسمع في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة - أنا الشريف أبو الحسين محمد بن علي المهتدي [ ص: 12 ] بالله ، أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي بن المقرئ - قراءة عليه ، فأقر به - ثنا محمد بن مخلد ، والحسين بن إسماعيل قالا : ثنا أحمد بن منصور زاج ، أنا أحمد بن مصعب المروزي ، ثنا عمر بن إبراهيم المدني ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان - وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم - قال : لما قبض أبو بكر -رضي الله عنه - وسجي ، ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء علي - عليه السلام - باكيا مسرعا مسترجعا ، وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبي ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر ، وأبو بكر مسجى ، فقال : رحمك الله أبا بكر ، كنت إلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشورته ، وكنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله ، وأحوطهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأحدبهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأكثرهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأشبههم هديا وسمتا ورحمة وفضلا ، وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه ، وأوثقهم عنده ، فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام خيرا .

كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة السمع والبصر ، صدقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين كذبه - يعني الناس - فسماك الله في تنزيله صديقا فقال : والذي جاء بالصدق وصدق به أبو بكر .

واسيته حين بخلوا ، وكنت معه عند المكاره حين عنه قعدوا ، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة ، ثاني اثنين ، وصاحبه في الغار ، والمنزل عليه السكينة ، ورفيقه في الهجرة ، وخليفته في دين الله وأمته أحسن خلافة حين ارتد الناس ، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي قط ، قويت حين [ ص: 13 ] وهن أصحابك ، وبرزت حين ضعفوا ، ولزمت منهاج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذ هموا ، كنت خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حقا ، لم تنازع ولم تصدع ، برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين ، وضغن الفاسقين ، وغيظ الباغين .

وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ، ومضيت بنور الله إذ قعدوا ، تبعوك فهدوا ، وكنت أخفضهم صوتا ، وأعلاهم فوقا ، وأقلهم كلاما ، وأصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم وأكثرهم رأيا ، وأسمحهم نفسا ، وأعرفهم بالأمور ، وأشرفهم علما .

كنت والله للدين يعسوبا أولا حين نفر عنه الناس ، وأخيرا حين قبلوا . كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ورعيت ما أهملوا ، وحفظت ما أطاعوا بعلمك ما جهلوا ، وشمرت حين خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، وأدركت آثار ما طلبوا وتراجعوا رشدهم برأيك ، فظفروا فنالوا بك ما لم يحتسبوا .

كنت على الكافرين عذابا صبا ولهبا ، وللمؤمنين رحمة وأنسا وحصنا ، وظفرت والله بغنائها ، وفزت بحبائها وذهبت بفضائلها ، وأدركت سوابقها ، لم تعلل حجتك ، ولم يزغ قلبك ، ولم تجبن ، كنت كالجبل لا تحركه العواصف ، ولا تزيله القواصف ، وكنت كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك . وكنت كما قال رسول الله : ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله عز وجل . متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا في أعين المؤمنين ، كبيرا في أنفسهم ، لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لقائل فيك مهمز ، ولا لأحد فيك مطمع ، ولا لمخلوق عندك هوادة ، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه ، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل [ ص: 14 ] حتى تأخذ منه الحق ، القريب والبعيد في ذلك سواء ، أقرب الناس إليك أطوعهم لله - عز وجل - وأتقاهم له ، شأنك الحق والصدق والرفق ، قولك حكم وأمرك حتم ، ورأيك علم وعزم ، فأبلغت وقد نهج السبيل وسهل العسير ، وأطفئت النيران ، واعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان وسدت الإسلام والمسلمين ، وظهر أمر الله ، ولو كره الكافرون ، فجليت عنهم ، فأبصروا ، سبقت والله سبقا بعيدا ، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، فزت بالخير فوزا مبينا فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قدره ، وسلمنا له أمره ، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمثلك أبدا ، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا ، وللمؤمنين فئة وحصنا وعونا ، وعلى المنافقين غلظة وغيظا ، فألحقك الله بنبيك - صلى الله عليه وسلم - ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

قال : وأمسك الناس حتى أمضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم ، وقالوا : صدقت والله يا ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم
.

التالي السابق


الخدمات العلمية