الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة التاسعة

              الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما : حقوق محدودة شرعا .

              [ ص: 247 ] والآخر حقوق غير محدودة .

              فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه .

              والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل .

              وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور :

              أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا .

              ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات .

              [ ص: 248 ] فإذا قال الشارع : وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] .

              فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة .

              والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت [ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع .

              والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم .

              والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح .

              لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد [ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة .

              لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم .

              فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف .

              فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا [ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره .

              وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية