الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      إثبات ربوبية الله - تعالى


      وأنه الرب الجليل الأكبر الخالق الباري والمصور [ ص: 130 ]     باري البرايا منشئ الخلائق
      مبدعهم بلا مثال سابق



      ( وأنه الرب ) أي وإثبات ربوبيته بأنه رب كل شيء ومليكه ، رب الأولين والآخرين ، رب المشرقين ورب المغربين ، رب السماوات والأرضين وما بينهما ، رب العالمين ، رب الآخرة والأولى ، مالك الملك فلا شريك له في ملكه ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، ويخفض من يشاء ، ويرفع من يشاء ، ويعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويصل من يشاء ، ويقطع من يشاء ، ويبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدره على من يشاء ، يخلق ما يشاء ، يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ، ويجعل من يشاء عقيما ، إنه عليم قدير ، يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويحيي الأرض بعد موتها ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ، خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأضحك وأبكى ، وأمات وأحيا ، وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى ، وأغنى وأقنى وأوجد وأفنى ، يبدي ويعيد ويفعل ما يريد ، رفع سمك السماء فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، وبسط الأرض ودحاها فراشا لعباده ومهادا ، ونصب الجبال عليها أوتادا ، سخر الفلك تجري في البحر بأمره ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار ، وكل في فلك يسبحون ، الذي أحسن كل شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .

      خالق الكون وما فيه ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، مرج البحرين ، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ، وأسبغ على عباده نعمه الظاهرة والباطنة ، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، علم وألهم ، ودبر فأحكم ، وقضى فأبرم ، لا راد لقضائه ، ولا مضاد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، ولا شريك له في ملكه ، [ ص: 131 ] ولا إله غيره ، ولا رب سواه ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

      ( الجليل ) أي المتصف بجميع نعوت الجلال وصفات الكمال ، المنزه عن النقائص والمحال ، المتعالي على الأشباه والأمثال ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى والمثل الأعلى ، وله الحمد في الآخرة والأولى .

      ( الأكبر ) الذي السماوات والأرض وما فيهن ، وما بينهما في كفه كخردلة في كف آحاد عباده ، له العظمة والكبرياء ، وهو أكبر كل شيء شهادة ، لا منازع له في عظمته وكبريائه ، ولا ينبغي العظمة والكبرياء إلا له ، ومن نازعه في صفة منهما ، أذاقه عذابه وأحل عليه غضبه ، ومن يحلل عليه غضبه فقد هوى .

      ( الخالق ) أي المقدر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره ، كما قال تعالى : ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ) ، ( الزمر : 6 ) ، وقال تعالى : ( ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ) ، ( الحج : 5 ) الآية ، قال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، ( المؤمنون : 12 - 14 ) ، وقال تعالى : ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) ، ( مريم : 67 ) ، وقال تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) ، ( الأنعام : 1 ) ، وقال تعالى : ( الله خالق كل شيء ) ، وقال تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) ، فالله - تبارك وتعالى - الخالق ، وكل ما سواه مخلوق له مربوب له ، لا خالق غيره ، فجميع السماوات والأرض ومن فيهن ، وما بينهما وحركات أهلها وسكناتهم ، وأرزاقهم وآجالهم ، وأقوالهم وأعمالهم ، كلها مخلوقات له ، محدثة كائنة بعد أن لم تكن ، وهو خالق ذلك كله وموجده ، ومبدئه ومعيده ، فمنه مبدؤها وإليه منتهاها ، ( ألا إلى الله تصير الأمور ) ، ( الشورى : 53 ) .

      [ ص: 132 ] ( البارئ ) أي المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ، والبرء هو الفري وهو التنفيذ ، وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده ، سوى الله - عز وجل - كما قيل : ولأنت تفري ما خلقت ، وبعض القوم يخلق ثم لا يفري ، أي أنت تنفذ ما خلقت ، أي قدرت ، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع كل ما يريد ، فالخلق التقدير ، والفري التنفيذ .

      ( المصور ) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض ، أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها ، يقال هذه صورة الأمر أو مثاله ، فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا ، وهذه الثلاثة الأسماء التي في سورة الحشر في خاتمتها ( هو الله الخالق البارئ المصور ) ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى : أي الذي إذا أراد شيئا ، قال له كن فيكون على الصفة التي يريد ، والصورة التي يختار ، كقوله تعالى : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) ، ( الانفطار : 8 ) .

      ( باري البرايا ) جميع الموجودات ( منشئ الخلائق ) أي جميع المخلوقات ( مبدعهم ) أي خالقهم ومنشئهم ومحدثهم ، يفسر ذلك ( بلا مثال سابق ) أي بلا نظير سالف ، ومنه سميت البدعة بدعة ; لأنها على غير مثال سابق في الشرع ، وقال الله تعالى : ( بديع السماوات والأرض ) ، ( البقرة : 117 ) أي محدثها وموجدها على غير مثال سبق ، وهذا مفسر للبيت الذي قبله ، وقد تقدم الكلام عليه ، ولله الحمد والمنة .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية