الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [ 111 ] لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون

                                                                                                                                                                                                                                      لن يضروكم إلا أذى أي : بألسنتهم لا يبالى به من طعن وتهديد : وإن يقاتلوكم [ ص: 938 ] أي : يوما من الأيام : يولوكم الأدبار يعني منهزمين مخذولين : ثم لا ينصرون يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      لطائف :

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : ثم لا ينصرون ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 939 ] قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية