[ ص: 6218 ] بسم الله الرحمن الرحيم
97- سورة القدر
قال السيوطي: فيها قولان، والأكثر أنها مكية، وآيها خمس.
[ ص: 6219 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى:
[ 1 - 5 ] إنا أنـزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر
أي: أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في إنا أنـزلناه في ليلة القدر وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: ليلة القدر. وكانت في رمضان، لقوله تعالى: إنا أنـزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
قال الإمام: سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير; لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه، أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم: (فلان له قدر)، أي: له شرف وعظمة; لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرفه وعظمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة; بجلالة ما وقع فيها من فقال: إنزال القرآن. أي: وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها. وما أدراك ما ليلة القدر
فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدال [ ص: 6220 ] على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال: (إنها خير من ألف شهر) لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهم يختبطون في ظلمات الضلال; فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى; فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور ليلة القدر خير من ألف شهر فإنه جار على عادتهم في الخطاب، وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت: إخفاء الصدقة خير من إظهارها، لم تعين درجة الأفضلية، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة وما أدراك ما ليلة القدر بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران ; فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة كان في تلك الليلة، تنزلت من عالمها الروحاني الذي لا يحده حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، والروح هو الذي يتمثل له مبلغا للوحي، وهو الذي سمي في القرآن تنـزل الملائكة والروح فيها بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح أي: إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم، فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذا الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام; لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال: بإذن ربهم أي: أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده، فيكون الإذن مبتدئا من الأمر على هذا المعنى. [ ص: 6221 ] والأمر ها هنا هو الأمر في قوله: من كل أمر فيها يفرق كل أمر حكيم فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء سواها; ولهذا قال بعضهم: إن (من) ها هنا بمعنى الباء، أي: بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله: أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين وقوله: تنـزل الملائكة مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين: فيها يفرق كل أمر حكيم
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا. وزلزلوا حتى يقول الرسول
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى: أي: أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه -وهو الأمن والسلامة- للمبالغة في أنه لم يشبها كدر، بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيام والشهور الطوال. سلام هي حتى مطلع الفجر
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية ولا إجماع في تعيين تلك الليلة، بل في صحيح شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن : البخاري أنها « رفعت » أي: رفع العلم بتعيينها. وفي رواية فيه: ، من قوله صلوات الله عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في « نسيتها أو أنسيتها » لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب « العشر الأخير من رمضان » ابن مسعود والشعبي والحسن إلى أنها ليلة أربع وعشرين. [ ص: 6222 ] قال وقتادة ابن حجر: وحجتهم حديث واثلة: وقد اضطربت أقوال السلف فيها –صحابة ومن بعدهم- حتى أنافت على أربعين قولا. أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان.
قال الإمام: ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان، ولا نعينها من بين لياليه. فقد اختلفت فيها الروايات اختلافا عظيما، وكتاب الله لم يعينها، وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة; شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم، في أثنائها. ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه; فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء، يتسابق إليها المنافقون ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه، ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه، بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال، فضلا عن الراشدين من الرجال. انتهى.
وقال : الطبري دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة; إذ لو كان ذلك حقا، لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلا عن ليالي رمضان. إخفاء ليلة القدر
الثاني: حكى الحافظ ابن جحر في (فتح الباري) قولا عن بعض العلماء، أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل مستنده ما صح أنها « رفعت » وقد قدمنا معناه; ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه. وعندي أن لا تنافي; لأن المراد بالأول هو ليلة نزول [ ص: 6223 ] القرآن وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السر في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة; لأنها منه قطعا. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكاراتهم وجعلها أعيادا، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها; فتأمل الفرق واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث: قال الإمام: ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك لم يرد; لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذب الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العزة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين، لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كنا من الذين "إن يتبعون إلا الظن" نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويعد من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل، فاحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ليلة النصف من شعبان،
تفسير سورة القدر
[ ص: 6218 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
97- سُورَةُ الْقَدْرِ
قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِيهَا قَوْلَانِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَآيُهَا خَمْسٌ.
[ ص: 6219 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
[ 1 - 5 ] nindex.php?page=treesubj&link=26777_28860_34367_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29747_34513_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ: أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِمَعْنَى ابْتَدَأْنَا إِنْزَالَهُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=26777لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمُبَارَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ وَكَانَتْ فِي رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
قَالَ الْإِمَامُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، إِمَّا بِمَعْنَى لَيْلَةِ التَّقْدِيرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهَا تَقْدِيرَ دِينِهِ وَتَحْدِيدَ الْخُطَّةِ لِنَبِيِّهِ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى مَا يُنْقِذُهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: (فُلَانٌ لَهُ قَدْرٌ)، أَيْ: لَهُ شَرَفٌ وَعَظَمَةٌ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْلَى فِيهَا مَنْزِلَةَ نَبِيِّهِ وَشَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَقَدْ جَاءَ بِمَا فِيهِ الْإِشَارَةُ، بَلِ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ جَلِيلَةٌ; بِجَلَالَةِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ nindex.php?page=treesubj&link=28860_26777إِنْزَالِ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَيْ: وَمَا الَّذِي يُعْلِمُكَ مَبْلَغَ شَأْنِهَا وَنَبَاهَةَ أَمْرِهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فَكَرَّرَ ذِكْرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَتَى بِالِاسْتِفْهَامِ الدَّالِّ [ ص: 6220 ] عَلَى أَنَّ شَرَفَهَا لَيْسَ مِمَّا تَسْهُلُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى الْأُمَمِ آلَافٌ مِنَ الشُّهُورِ وَهُمْ يَخْتَبِطُونَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ; فَلَيْلَةٌ يَسْطَعُ فِيهَا نُورُ الْهُدَى خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهِمُ الْأُولَى. وَلَكَ أَنْ تَقِفَ فِي التَّفْضِيلِ عِنْدَ النَّصِّ، وَتُفَوِّضُ الْأَمْرَ، فِي تَحْدِيدِ مَا فُضِّلَتْ عَلَيْهِ اللَّيْلَةُ بِأَلْفِ شَهْرٍ، إِلَى اللَّهِ تَعَالَى; فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ سَبَبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، وَلَكَ أَنْ تُجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّخَاطُبِ. وَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ، وَإِلَّا فَالْعَلِيمُ الْخَبِيرُ لَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالْأَلِفِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، وَإِنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ تَفْضُلُهُ هُوَ أَلْفُ شَهْرٍ. ثُمَّ إِنَّ دَرَجَاتِ فَضْلِهَا عَلَى هَذَا الْعَدَدِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ. فَإِذَا قُلْتَ: إِخْفَاءُ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ مِنْ إِظْهَارِهَا، لَمْ تُعَيِّنْ دَرَجَةَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَهِيَ دَرَجَاتٌ فَوْقَ دَرَجَاتٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ وَاقِعَةُ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، أَوْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْأَنْفَالِ وَآلِ عِمْرَانَ ; فَالْعَدَدُ هُنَاكَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. فَهِيَ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدَّهْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ بَعْضِ مَزَايَاهَا فَقَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا يُخْبِرُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّ أَوَّلَ عَهْدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، تَنَزَّلَتْ مِنْ عَالَمِهَا الرُّوحَانِيِّ الَّذِي لَا يَحُدُّهُ حَدٌّ وَلَا يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ، حَتَّى تَمَثَّلَتْ لِبَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَتَمَثَّلُ لَهُ مُبَلِّغًا لِلْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ بِجِبْرِيلَ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَيْ: إِنَّمَا تَتَجَلَّى الْمَلَائِكَةُ عَلَى النَّفْسِ الْكَامِلَةِ، بَعْدَ أَنْ هَيَّأَهَا اللَّهُ لِقَبُولِ تَجَلِّيهَا. وَلَيْسَتْ تَتَجَلَّى الْمَلَائِكَةُ لِجَمِيعِ النُّفُوسِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاخْتِصَاصُهُ هُوَ إِذْنُهُ وَمَشِيئَتُهُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِذْنَ مَبْدَؤُهُ الْأَوَامِرُ وَالْأَحْكَامُ; لِأَنَّ اللَّهَ يُجَلِّي الْمَلَائِكَةَ عَلَى النُّفُوسِ، لِإِيحَاءِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ الْمَلَائِكَةَ وَالرُّوحَ لِرُسُلِهِ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ إِلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ الْإِذْنُ مُبْتَدِئًا مِنَ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. [ ص: 6221 ] وَالْأَمْرُ هَا هُنَا هُوَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فَالْكَلَامُ فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ، لَا فِي شَيْءٍ سِوَاهَا; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مِنْ) هَا هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِكُلِّ أَمْرٍ. وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَقَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى مَاضٍ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ مَبْدَأِ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: لِاسْتِحْضَارِ الْمَاضِي لِعَظَمَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْمُضَارِعَ بَعْدَ الْمَاضِي يَزِيدُ الْأَمْرَ تَصْوِيرًا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ مَبْدَأَ النُّزُولِ كَانَ فِيهَا، وَلَكِنْ بَقِيَّةَ الْكِتَابِ وَمَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ كَانَ فِيمَا بَعْدُ، فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا ابْتَدَأَ فِيهَا يَسْتَمِرُّ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ حَتَّى يُكْمِلَ الدِّينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أَيْ: أَنَّهَا كَانَتْ لَيْلَةً سَالِمَةً مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَأَذًى. وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِالسَّلَامِ نَفْسِهِ -وَهُوَ الْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ- لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَشُبْهَا كَدَرٌ، بَلْ فَرَّجَ اللَّهُ فِيهَا عَنْ نَبِيِّهِ كُلَّ كُرْبَةٍ وَفَتَحَ لَهُ فِيهَا سُبُلَ الْهِدَايَةِ، فَأَنَالَهُ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَتَطَلَّعُ إِلَيْهَا الْأَيَّامَ وَالشُّهُورَ الطِّوَالَ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: قَدَّمْنَا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي ابْتَدَأَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ لِآيَةِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَلَا إِجْمَاعَ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، بَلْ فِي صَحِيحِ nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ : أَنَّهَا « رُفِعَتْ » أَيْ: رُفِعَ الْعِلْمُ بِتَعْيِينِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ: nindex.php?page=hadith&LINKID=651877« نَسِيتُهَا أَوْ أُنْسِيتُهَا » ، مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلِذَا رَغَّبَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ كُلَّهُ رَجَاءَ مُوَافَقَتِهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ. نَعَمِ الْأَقْوَى رِوَايَةً أَنَّهَا فِي nindex.php?page=hadith&LINKID=651877« الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ » لِمَا كَانَ مِنِ اهْتِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ وَإِحْيَاءِ لَيْلِهِ وَإِيقَاظِ أَهْلِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=14102وَالْحَسَنُ nindex.php?page=showalam&ids=16815وَقَتَادَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. [ ص: 6222 ] قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ وَاثِلَةَ: nindex.php?page=hadith&LINKID=910176أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِيهَا –صَحَابَةً وَمَنْ بَعْدَهُمْ- حَتَّى أَنَافَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا.
قَالَ الْإِمَامُ: ثُمَّ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا نُعَيِّنُهَا مِنْ بَيْنِ لَيَالِيهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَكِتَابُ اللَّهِ لَمْ يُعَيِّنْهَا، وَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِهَا، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ حَثُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ; شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ إِفَاضَتَهُ فِيهِمْ، فِي أَثْنَائِهَا. وَلَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِيهَا أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، فَمَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ خَبَرٌ فِي لَيْلَةٍ أَحْيَاهَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوَافِقَهَا عَلَى التَّحْقِيقِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ بِالْفَرَاغِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَاتِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَدَمِ تَعْيِينِهَا. وَتُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَجْعَلُ الشَّهْرَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، لِيَذْكُرَ الْمُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ; فَهِيَ لَيْلَةُ عِبَادَةٍ وَخُشُوعٍ، وَتَذَكُّرٍ لِنِعْمَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ. فَلَا تَكُونُ لَيْلَةَ زَهْوٍ وَلَهْوٍ تُتَّخَذُ فِيهَا مَسَاجِدُ اللَّهِ مَضَامِيرَ لِلرِّيَاءِ، يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ وَيُحَدِّثُ أَنْفُسَهُمْ بِالْبُعْدِ عَنْهَا الْمُخْلِصُونَ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا حَفِظُوهُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هُوَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِيهَا سَاعَةُ سَمَرٍ يَتَحَدَّثُونَ فِيهَا بِمَا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَيَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَعَانِيهِ، بَلْ إِنْ أَصْغَوْا إِلَيْهِ فَإِنَّمَا يُصْغُونَ لِنَغَمَةِ تَالِيهِ، ثُمَّ يَسْمَعُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يَصِحَّ خَبَرُهُ، وَلَمْ يُحْمَدْ فِي الْآخِرِينَ وَلَا الْأَوَّلِينَ أَثَرُهُ، وَلَهُمْ خَيَالَاتٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا تَلِيقُ بِعُقُولِ الْأَطْفَالِ، فَضْلًا عَنِ الرَّاشِدِينَ مِنَ الرِّجَالِ. انْتَهَى.
وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ : nindex.php?page=treesubj&link=26778_32967إِخْفَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِلْعُيُونِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ; إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا، لَمْ يُخْفَ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَ لَيَالِيَ السَّنَةِ، فَضْلًا عَنْ لَيَالِي رَمَضَانَ.
الثَّانِي: حَكَى الْحَافِظُ ابْنُ جَحَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) قَوْلًا عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا صَحَّ أَنَّهَا « رُفِعَتْ » وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ; وَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ. وَعِنْدِي أَنْ لَا تَنَافِيَ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ هُوَ لَيْلَةُ نُزُولِ [ ص: 6223 ] الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ التَّجَلِّي الْخَاصِّ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهِ، وَبِالثَّانِي أَنَّ مَا يُوَافِقُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ، هِيَ لَيْلَةٌ فِيهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا، بِفَضْلٍ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ غَيْرِهَا. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَالْتِمَاسِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ. أَعْنِي إِحْيَاءَ مَا مَاثَلَهَا مِنَ اللَّيَالِي تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَشُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ، فَالْقَائِمُ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، أَوْ فِي رَمَضَانَ، مُصَادِفٌ الْبَتَّةَ لِمَا مَاثَلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ; لِأَنَّهَا مِنْهُ قَطْعًا. وَقَدْ بَايَنَ الْإِسْلَامُ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِتَشْرِيعِ اتِّخَاذِهَا مَوْسِمًا لِلْعِبَادَةِ مَا ابْتَدَعَهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ الْأُخَرِ فِي تِذْكَارَاتِهِمْ وَجَعَلَهَا أَعْيَادًا، تُصْرَفُ سَاعَاتُهَا لِلْبِطَالَةِ وَالزِّينَةِ وَاللَّهْوِ، مِمَّا يُنَافِي حِكْمَةَ ذِكْرَاهَا; فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ وَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ: مَا يَقُولُهُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ هِيَ nindex.php?page=treesubj&link=32977لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تُفْرَقُ فِيهَا هِيَ الْأَرْزَاقُ وَالْأَعْمَارُ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَهُوَ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْغَيْبِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ; لِاضْطِرَابِ الرِّوَايَاتِ، وَضَعْفِ أَغْلَبِهَا، وَكَذِبِ الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِثْلُهَا لَا يَصِحُّ الْأَخْذُ بِهِ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ، لِعَدَمِ تَوَاتُرِ خَبَرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا الْأَخْذُ بِالظَّنِّ فِي عَقِيدَةِ مِثْلِ هَذِهِ، وَإِلَّا كُنَّا مِنَ الَّذِينَ "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ" نَعُوذُ بِاللَّهِ. وَقَدْ وَقَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، مُصِيبَةِ الْخَلْطِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ الِاعْتِقَادُ بِهِ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ وَيُعَدُّ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَبَيْنَ مَا يُظَنُّ بِهِ لِلْعَمَلِ عَلَى فَضِيلَةٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَاحْذَرْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا مِثْلَهُمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
97- سُورَةُ الْقَدْرِ
قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِيهَا قَوْلَانِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَآيُهَا خَمْسٌ.
[ ص: 6219 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
[ 1 - 5 ] nindex.php?page=treesubj&link=26777_28860_34367_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29747_34513_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ nindex.php?page=treesubj&link=26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ: أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِمَعْنَى ابْتَدَأْنَا إِنْزَالَهُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=26777لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمُبَارَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ وَكَانَتْ فِي رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
قَالَ الْإِمَامُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، إِمَّا بِمَعْنَى لَيْلَةِ التَّقْدِيرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهَا تَقْدِيرَ دِينِهِ وَتَحْدِيدَ الْخُطَّةِ لِنَبِيِّهِ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى مَا يُنْقِذُهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: (فُلَانٌ لَهُ قَدْرٌ)، أَيْ: لَهُ شَرَفٌ وَعَظَمَةٌ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْلَى فِيهَا مَنْزِلَةَ نَبِيِّهِ وَشَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَقَدْ جَاءَ بِمَا فِيهِ الْإِشَارَةُ، بَلِ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ جَلِيلَةٌ; بِجَلَالَةِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ nindex.php?page=treesubj&link=28860_26777إِنْزَالِ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَيْ: وَمَا الَّذِي يُعْلِمُكَ مَبْلَغَ شَأْنِهَا وَنَبَاهَةَ أَمْرِهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فَكَرَّرَ ذِكْرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَتَى بِالِاسْتِفْهَامِ الدَّالِّ [ ص: 6220 ] عَلَى أَنَّ شَرَفَهَا لَيْسَ مِمَّا تَسْهُلُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى الْأُمَمِ آلَافٌ مِنَ الشُّهُورِ وَهُمْ يَخْتَبِطُونَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ; فَلَيْلَةٌ يَسْطَعُ فِيهَا نُورُ الْهُدَى خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهِمُ الْأُولَى. وَلَكَ أَنْ تَقِفَ فِي التَّفْضِيلِ عِنْدَ النَّصِّ، وَتُفَوِّضُ الْأَمْرَ، فِي تَحْدِيدِ مَا فُضِّلَتْ عَلَيْهِ اللَّيْلَةُ بِأَلْفِ شَهْرٍ، إِلَى اللَّهِ تَعَالَى; فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ سَبَبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، وَلَكَ أَنْ تُجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّخَاطُبِ. وَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ، وَإِلَّا فَالْعَلِيمُ الْخَبِيرُ لَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالْأَلِفِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، وَإِنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ تَفْضُلُهُ هُوَ أَلْفُ شَهْرٍ. ثُمَّ إِنَّ دَرَجَاتِ فَضْلِهَا عَلَى هَذَا الْعَدَدِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ. فَإِذَا قُلْتَ: إِخْفَاءُ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ مِنْ إِظْهَارِهَا، لَمْ تُعَيِّنْ دَرَجَةَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَهِيَ دَرَجَاتٌ فَوْقَ دَرَجَاتٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ وَاقِعَةُ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، أَوْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْأَنْفَالِ وَآلِ عِمْرَانَ ; فَالْعَدَدُ هُنَاكَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. فَهِيَ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدَّهْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ بَعْضِ مَزَايَاهَا فَقَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا يُخْبِرُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّ أَوَّلَ عَهْدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، تَنَزَّلَتْ مِنْ عَالَمِهَا الرُّوحَانِيِّ الَّذِي لَا يَحُدُّهُ حَدٌّ وَلَا يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ، حَتَّى تَمَثَّلَتْ لِبَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَتَمَثَّلُ لَهُ مُبَلِّغًا لِلْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ بِجِبْرِيلَ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَيْ: إِنَّمَا تَتَجَلَّى الْمَلَائِكَةُ عَلَى النَّفْسِ الْكَامِلَةِ، بَعْدَ أَنْ هَيَّأَهَا اللَّهُ لِقَبُولِ تَجَلِّيهَا. وَلَيْسَتْ تَتَجَلَّى الْمَلَائِكَةُ لِجَمِيعِ النُّفُوسِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاخْتِصَاصُهُ هُوَ إِذْنُهُ وَمَشِيئَتُهُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِذْنَ مَبْدَؤُهُ الْأَوَامِرُ وَالْأَحْكَامُ; لِأَنَّ اللَّهَ يُجَلِّي الْمَلَائِكَةَ عَلَى النُّفُوسِ، لِإِيحَاءِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ الْمَلَائِكَةَ وَالرُّوحَ لِرُسُلِهِ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ إِلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ الْإِذْنُ مُبْتَدِئًا مِنَ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. [ ص: 6221 ] وَالْأَمْرُ هَا هُنَا هُوَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فَالْكَلَامُ فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ، لَا فِي شَيْءٍ سِوَاهَا; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مِنْ) هَا هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِكُلِّ أَمْرٍ. وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَقَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى مَاضٍ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ مَبْدَأِ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: لِاسْتِحْضَارِ الْمَاضِي لِعَظَمَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْمُضَارِعَ بَعْدَ الْمَاضِي يَزِيدُ الْأَمْرَ تَصْوِيرًا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ مَبْدَأَ النُّزُولِ كَانَ فِيهَا، وَلَكِنْ بَقِيَّةَ الْكِتَابِ وَمَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ كَانَ فِيمَا بَعْدُ، فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا ابْتَدَأَ فِيهَا يَسْتَمِرُّ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ حَتَّى يُكْمِلَ الدِّينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أَيْ: أَنَّهَا كَانَتْ لَيْلَةً سَالِمَةً مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَأَذًى. وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِالسَّلَامِ نَفْسِهِ -وَهُوَ الْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ- لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَشُبْهَا كَدَرٌ، بَلْ فَرَّجَ اللَّهُ فِيهَا عَنْ نَبِيِّهِ كُلَّ كُرْبَةٍ وَفَتَحَ لَهُ فِيهَا سُبُلَ الْهِدَايَةِ، فَأَنَالَهُ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَتَطَلَّعُ إِلَيْهَا الْأَيَّامَ وَالشُّهُورَ الطِّوَالَ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: قَدَّمْنَا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي ابْتَدَأَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ لِآيَةِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَلَا إِجْمَاعَ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، بَلْ فِي صَحِيحِ nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ : أَنَّهَا « رُفِعَتْ » أَيْ: رُفِعَ الْعِلْمُ بِتَعْيِينِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ: nindex.php?page=hadith&LINKID=651877« نَسِيتُهَا أَوْ أُنْسِيتُهَا » ، مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلِذَا رَغَّبَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ كُلَّهُ رَجَاءَ مُوَافَقَتِهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ. نَعَمِ الْأَقْوَى رِوَايَةً أَنَّهَا فِي nindex.php?page=hadith&LINKID=651877« الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ » لِمَا كَانَ مِنِ اهْتِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ وَإِحْيَاءِ لَيْلِهِ وَإِيقَاظِ أَهْلِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=14102وَالْحَسَنُ nindex.php?page=showalam&ids=16815وَقَتَادَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. [ ص: 6222 ] قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ وَاثِلَةَ: nindex.php?page=hadith&LINKID=910176أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِيهَا –صَحَابَةً وَمَنْ بَعْدَهُمْ- حَتَّى أَنَافَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا.
قَالَ الْإِمَامُ: ثُمَّ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا نُعَيِّنُهَا مِنْ بَيْنِ لَيَالِيهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَكِتَابُ اللَّهِ لَمْ يُعَيِّنْهَا، وَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِهَا، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ حَثُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ; شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ إِفَاضَتَهُ فِيهِمْ، فِي أَثْنَائِهَا. وَلَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِيهَا أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، فَمَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ خَبَرٌ فِي لَيْلَةٍ أَحْيَاهَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوَافِقَهَا عَلَى التَّحْقِيقِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ بِالْفَرَاغِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَاتِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَدَمِ تَعْيِينِهَا. وَتُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَجْعَلُ الشَّهْرَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، لِيَذْكُرَ الْمُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ; فَهِيَ لَيْلَةُ عِبَادَةٍ وَخُشُوعٍ، وَتَذَكُّرٍ لِنِعْمَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ. فَلَا تَكُونُ لَيْلَةَ زَهْوٍ وَلَهْوٍ تُتَّخَذُ فِيهَا مَسَاجِدُ اللَّهِ مَضَامِيرَ لِلرِّيَاءِ، يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ وَيُحَدِّثُ أَنْفُسَهُمْ بِالْبُعْدِ عَنْهَا الْمُخْلِصُونَ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا حَفِظُوهُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هُوَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِيهَا سَاعَةُ سَمَرٍ يَتَحَدَّثُونَ فِيهَا بِمَا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَيَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَعَانِيهِ، بَلْ إِنْ أَصْغَوْا إِلَيْهِ فَإِنَّمَا يُصْغُونَ لِنَغَمَةِ تَالِيهِ، ثُمَّ يَسْمَعُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يَصِحَّ خَبَرُهُ، وَلَمْ يُحْمَدْ فِي الْآخِرِينَ وَلَا الْأَوَّلِينَ أَثَرُهُ، وَلَهُمْ خَيَالَاتٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا تَلِيقُ بِعُقُولِ الْأَطْفَالِ، فَضْلًا عَنِ الرَّاشِدِينَ مِنَ الرِّجَالِ. انْتَهَى.
وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ : nindex.php?page=treesubj&link=26778_32967إِخْفَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِلْعُيُونِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ; إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا، لَمْ يُخْفَ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَ لَيَالِيَ السَّنَةِ، فَضْلًا عَنْ لَيَالِي رَمَضَانَ.
الثَّانِي: حَكَى الْحَافِظُ ابْنُ جَحَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) قَوْلًا عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا صَحَّ أَنَّهَا « رُفِعَتْ » وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ; وَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ. وَعِنْدِي أَنْ لَا تَنَافِيَ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ هُوَ لَيْلَةُ نُزُولِ [ ص: 6223 ] الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ التَّجَلِّي الْخَاصِّ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهِ، وَبِالثَّانِي أَنَّ مَا يُوَافِقُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ، هِيَ لَيْلَةٌ فِيهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا، بِفَضْلٍ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ غَيْرِهَا. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَالْتِمَاسِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ. أَعْنِي إِحْيَاءَ مَا مَاثَلَهَا مِنَ اللَّيَالِي تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَشُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ، فَالْقَائِمُ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، أَوْ فِي رَمَضَانَ، مُصَادِفٌ الْبَتَّةَ لِمَا مَاثَلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ; لِأَنَّهَا مِنْهُ قَطْعًا. وَقَدْ بَايَنَ الْإِسْلَامُ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِتَشْرِيعِ اتِّخَاذِهَا مَوْسِمًا لِلْعِبَادَةِ مَا ابْتَدَعَهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ الْأُخَرِ فِي تِذْكَارَاتِهِمْ وَجَعَلَهَا أَعْيَادًا، تُصْرَفُ سَاعَاتُهَا لِلْبِطَالَةِ وَالزِّينَةِ وَاللَّهْوِ، مِمَّا يُنَافِي حِكْمَةَ ذِكْرَاهَا; فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ وَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ: مَا يَقُولُهُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ هِيَ nindex.php?page=treesubj&link=32977لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تُفْرَقُ فِيهَا هِيَ الْأَرْزَاقُ وَالْأَعْمَارُ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَهُوَ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْغَيْبِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ; لِاضْطِرَابِ الرِّوَايَاتِ، وَضَعْفِ أَغْلَبِهَا، وَكَذِبِ الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِثْلُهَا لَا يَصِحُّ الْأَخْذُ بِهِ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ، لِعَدَمِ تَوَاتُرِ خَبَرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا الْأَخْذُ بِالظَّنِّ فِي عَقِيدَةِ مِثْلِ هَذِهِ، وَإِلَّا كُنَّا مِنَ الَّذِينَ "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ" نَعُوذُ بِاللَّهِ. وَقَدْ وَقَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، مُصِيبَةِ الْخَلْطِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ الِاعْتِقَادُ بِهِ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ وَيُعَدُّ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَبَيْنَ مَا يُظَنُّ بِهِ لِلْعَمَلِ عَلَى فَضِيلَةٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَاحْذَرْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا مِثْلَهُمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.