الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2569 [ ص: 107 ] 4 - باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى ، جاز

                                                                                                                                                                                                                              2718 - حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكرياء قال : سمعت عامرا يقول : حدثني جابر رضي الله عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيا ، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه ، فدعا له ، فسار بسير ليس يسير مثله ثم قال : "بعنيه بوقية" . قلت : لا . ثم قال : "بعنيه بوقية" . فبعته ، فاستثنيت حملانه إلى أهلي ، فلما قدمنا أتيته بالجمل ، ونقدني ثمنه ، ثم انصرفت ، فأرسل على إثري ، قال : " ما كنت لآخذ جملك ، فخذ جملك ذلك فهو مالك" . [انظر : 443 - مسلم: 715 - فتح: 5 \ 314]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              قال شعبة ، عن مغيرة ، عن عامر ، عن جابر : أفقرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره إلى المدينة . وقال إسحاق عن جرير عن مغيرة : فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة . وقال عطاء وغيره : "لك ظهره إلى المدينة" ، وقال محمد بن المنكدر عن جابر : شرط ظهره إلى المدينة . وقال زيد بن أسلم ، عن جابر : "ولك ظهره حتى ترجع" . وقال أبو الزبير عن جابر : "أفقرناك ظهره إلى المدينة" . وقال الأعمش ، عن سالم عن جابر : "تبلغ عليه إلى أهلك" . وقال عبيد الله ، وابن إسحاق ، عن وهب عن جابر : اشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقية . وتابعه زيد بن أسلم ، عن جابر . وقال ابن جريج ، عن عطاء وغيره ، عن جابر : "أخذته بأربعة دنانير" . وهذا يكون وقية على حساب الدينار بعشرة دراهم . ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي ، عن جابر ، وابن المنكدر وأبو الزبير ، عن جابر . وقال الأعمش ، عن سالم ، عن جابر : وقية ذهب . وقال أبو إسحاق ، عن سالم ، عن جابر : بمائتي درهم . وقال داود بن قيس ، عن عبيد الله بن مقسم ، عن جابر : اشتراه بطريق تبوك

                                                                                                                                                                                                                              - أحسبه قال : بأربع أواق- وقال أبو نضرة ، عن جابر : اشتراه بعشرين دينارا . وقول الشعبي : بوقية ، أكثر . الاشتراط أكثر وأصح عندي . قاله أبو عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 108 ] ذكر فيه حديث جابر في بيع الجمل بطرقه ، وقد سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : ضرب الدواب ، ومراعاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("بعنيه بوقية " ) المعروف : أوقية .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (قلت : لا ) قال ابن التين : ليس بمحفوظ إلا أن يريد لا أبيعكه ، هو لك بغير ثمن .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : لا أدري ما وجه كونه ليس بمحفوظ ، فإنه أولا قال : لا ، ثم لما كرر الطلب ثانيا باعه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (نقدني ثمنه ) هو المراد بالرواية الأخرى أمر بلالا فأعطاني ثمنه وزادني .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فأرسل على إثري ) هو : بكسر الهمزة ، وسكون الثاء ، وفتحها مع فتح الثاء ، وفي أخرى : فناداني . والمعنى سواء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("هو لك " ) فيه : جواز العطية ، وإن لم يقل المعطى قبلت .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (أفقرني ظهره ) أي : أعارني . مشتق من فقار الظهر ، وفي رواية : شرط ظهره إلى المدينة ، وأخرى : فاستثنيت حملانه إلى أهلي .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : دلالة على جواز البيع والشرط ، وعليه أصحاب مالك كلهم إلا علي بن زياد فإنه كرهه ، وإن قرب الأمد .

                                                                                                                                                                                                                              واختلاف الرواة في الثمن فيه ، وهم من بعضهم وليس ذلك وهنا للحديث ; لإجماعهم على البيع واشتراط الركوب . قاله الداودي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 109 ] قال ابن التين : ولعله يريد : اجتماع أكثرهم قال : وقوله : (وقية ذهب ) . ليس لها أثر معروف .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن مالك : أوقية الذهب : أربعة الدنانير . ويؤيده قوله في رواية عطاء وغيره : أربعة دنانير .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في رواية سالم : وقية ذهب . وأوقية الفضة : أربعون درهما ، وكذا قال المهلب : إن اختلافهم في ثمن الجمل لا حاجة بنا إلى علم مقداره ، والغرض فيه فعل العقد ، وأنه كان مثمن ، فلذلك لم يعتبر مقداره .

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث لاختلاف ألفاظه فمرة روي بلفظ الهبة والإفقار ، ومرة بلفظ الاستثناء والاشتراط ، واختلاف اللفظ يوجب اختلاف المعاني عند الفقهاء ، إلا أن البخاري غلب لفظ الاشتراط ، وقضى له على غيره بالصحة ، حيث قال : الاشتراط أكثر وأصح عندي . وممن قال بذلك من الفقهاء : الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، أبو ثور ، ومحمد بن نصر المروزي .

                                                                                                                                                                                                                              وأهل الحديث قالوا : لا بأس أن يبيع الرجل الدابة ، ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم ، والبيع في ذلك جائز ، والشرط ثابت ، وقال مالك : إن كان الاشتراط للركوب إلى مكان قريب كاليوم واليومين والثلاثة فلا بأس بذلك ، وإن كان بعيدا ، فلا ضير فيه على ظاهر حديث جابر أنه باع الجمل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واستثنى ركوبه إلى المدينة ، وكان بينه وبينها ثلاثة أيام .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : ولا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 110 ] وقالت طائفة : إذا اشترط ركوب الدابة ، أو خدمة العبد ، أو سكنى الدار فالبيع فاسد . هذا قول الكوفيين ، والشافعي ، وقالوا : قد ورد حديث جابر بلفظ الإفقار والهبة ، وهو أولى من حديث الاشتراط . قالوا : ولا يخلو شرط ركوب البائع أن يكون ركوبا مستحقا من مال المشتري ، فيكون البيع فاسدا ; لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري ، أو يكون استثناؤه الركوب أوجب بها الركوب في مال البائع . فهذا محال ; لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع ، وإنما ملكها ; لأنها طرأت في ملكه ، وكذلك سكنى الدار ونحوها ، واحتج عليهم من خالفهم فقال : لا خلاف بيننا أنه لو باع نخلا عليها ثمر قد أبر وبقاها لنفسه أنه جائز ، والثمرة تبقى على نخل المبتاع إلى وقت جدادها وقد باع النخل ، واستثنى منفعة تلك الثمرة لنفسه ، وجاز ذلك فكذلك في مسألتنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أجمعوا على جواز الغرر اليسير في البيوع ، وقد أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن عثمان أنه ابتاع دارا ، واشترط لنفسه سكناها مدة معلومة . وعثمان إمام فعل ذلك بين الصحابة ، فلم ينكر أحد .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قالوا : إنه - عليه السلام - نهى عن بيع وشرط ; قيل : الذي نهى عن ذلك هو الذي جوز البيع والشرط في حديث جابر فدل أن الحديث مخصوص فإن من الشروط ما يجوز ومنها ما لا يجوز ، وقد قال : "المؤمنون على شروطهم" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 111 ] قال ابن المنذر : وحديث جابر مستغنى به عن قول كل أحد ، وإنما نهى أن يستثني مجهولا من معلوم ، فأما إذا علم المستثنى فذلك جائز .

                                                                                                                                                                                                                              ومن خالف حديث جابر يستثني برأيه ، فيما لا سنة فيه ، كالدار يبيعها الرجل ، وقد أكراها مدة معلومة . أن سكناها للمكتري على المشتري إلى انقضاء المدة . فإذا جاز هذا ، ولا سنة فيه ، فالسنة الثابتة أولى أن يستن بها .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : وممن روى : "ظهره إلى المدينة" يدل على أنه تفضل عليه بركوبه إلى المدينة ، ولم يكن من اشتراط جابر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصل البيع ، ويؤكد ذلك رواية من روى (فأفقره ظهره إلى المدينة ) . والإفقار : لا يكون إلا تفضلا فتكون رواية من روى : (وشرط له ظهره إلى المدينة ) شرط تفضل ; لأن القصة كلها جرت على وجه التفضل من الشارع والرفق بجابر ; لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده زيادة .

                                                                                                                                                                                                                              وكيف يشترط عليه جابر ركوبه ، وحين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بعنيه" ، قال له جابر : هو لك يا رسول الله . فلم يقبله إلا بثمن رفقا به . كما سلف في الوكالة في باب : إذا وكل رجلا أن يعطي شيئا ولم يبين كم يعطي ؟




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية