الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله عن الرجل يكتري أرضا للزرع فتصيبه آفة فيهلك فهل فيه جائحة ؟ أم لا ؟

                التالي السابق


                فأجاب : أما إذا اكترى أرضا للزرع فأصابته آفة .

                فهذه " مسألة وضع الجوائح في الثمر " فإن اشترى ثمرا قد بدا صلاحه فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة .

                كمالك وغيره .

                وفقهاء الحديث كأحمد وغيره .

                وهو قول معلق للشافعي ; فإن الشافعي علق القول بصحة الحديث .

                والحديث قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 260 ] { إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا .

                بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟
                } .

                والاعتبار يؤيد هذا القول فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها .

                فإذا قيل : هذه الثمرة تلفت بعد القبض قبل قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع ; فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح ; ولهذا إذا شرط المشتري في قبضها بعد كمال الصلاح كانت من ضمانه .

                وقد تنازع الفقهاء هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد : أحدهما : لا يجوز ; لأنه بيع للمبيع قبل قبضه إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه .

                والثاني : يجوز بيعها وهو الصحيح ; لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان كقبض العين المؤجرة فإنه إذا قبضها جاز له التصرف في المنافع وإن كانت إذا تلفت تكون من ضمان المؤجر ; لكن تنازع الفقهاء : هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به ؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد .

                [ ص: 261 ] قيل : يجوز كقول الشافعي .

                وقيل : لا يجوز كقول أبي حنيفة وصاحبيه ; لأنه ربح فيما لم يضمن ; لأن المنافع لم يضمنها .

                وقيل : إن أحدث فيها عمارة جاز وإلا فلا .

                والأول أصح ; لأنها مضمونة عليه بالقبض بمعنى أنه إذا لم يستوفها تلفت من ضمانه لا من ضمان المؤجر كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه والتمكن من جذاذه ; ولكن إذا تلفت العين المؤجرة كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر ; لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده .



                فصل وأما إذا استأجر أرضا للازدراع فأصابتها آفة فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه مثل أن يكون في البيدر فيسرقه اللص أو يؤخر حصاده عن الوقت حتى يتلف .

                فهنا يجب على المستأجر الأجرة .

                وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع .

                وأما إذا نبت الزرع ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه مثل [ ص: 262 ] نار أو ريح أو برد أو غير ذلك مما يفسده بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته .

                فهنا فيه قولان : أظهرهما : أن يكون من ضمان المؤجر ; لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد ; لأن المقصود بالعقد المنفعة التي يثبت بها الزرع حتى يتمكن من حصاده فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقا بطل المقصود بالعقد قبل التمكن من استيفائه .

                ومثل هذا لو كانت الأرض سبخة فتلف الزرع أو كانت إلى جانب بحر أو نهر فأتلف الماء تلك الأرض قبل كمال الزرع ونحو ذلك .

                ففي هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر .

                وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الانتفاع به .

                كما لو ماتت الدابة المستأجرة أو انقطع الماء ولم يمكن الانتفاع بها في شيء من المنفعة المقصودة بالعقد وأمثال هذه الصور .

                وليس هذا مثل أن يسرق ماله أو يحترق من الدار ; فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره ; بأن يحفظها من اللص أو الحريق .

                ونظير ذلك أن يتلف المال الذي اكترى الدابة لحمله ; فإن الأجرة عليه ; بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الانتفاع مطلقا له ولغيره ; فإن هذا بمنزلة موت الدابة واحتراق الدار المؤجرة .

                ونظير سرقة [ ص: 263 ] متاعه من الدار : أن يسرق سارق زرعه .

                وأما إذا جاء جيش عام فأفسد الزرع فهذه آفة سماوية ; فإن هذا لا يمكن تضمينه ; ولا الاحتراز منه .

                ونظيره أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التي يسكنونها .




                الخدمات العلمية