الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          480 - مسألة : ومن أيقن أنه نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي ؟ فإن مالكا ، وأبا يوسف ، والشافعي ، وأبا سليمان قالوا : يصلي صلاة يوم وليلة ؟ ويلزم على هذا القول إن لم يدر أمن سفر أم من حضر ؟ أن يصلي ثماني صلوات ؟ وقال سفيان الثوري ، ومحمد بن الحسن : يصلي ثلاث صلوات - : إحداها - ركعتان ، ينوي بها الصبح .

                                                                                                                                                                                          والثانية - ثلاث ينوي بها المغرب .

                                                                                                                                                                                          والثالثة - أربع ينوي بها الظهر أو العصر ؟ أو العشاء الآخرة ؟ ويلزم على هذا القول إن لم يدر أمن سفر هي أم من حضر ؟ أن يصلي صلاتين فقط - : إحداهما ركعتان ، والأخرى ثلاث ركعات ؟ وقال زفر ، والمزني : يصلي صلاة واحدة أربع ركعات ، يقعد في الثانية ، ثم في الثالثة ، ثم في الرابعة ، ثم يسجد للسهو .

                                                                                                                                                                                          قال زفر : بعد السلام ، وقال المزني : قبل السلام وقال الأوزاعي : يصلي صلاة واحدة أربع ركعات فقط ، لا يقعد إلا في الثانية والرابعة ، ثم يسجد للسهو ينوي في ابتدائه إياها أنها التي فاتته في علم الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وبهذا نأخذ ، إلا أن الأوزاعي قال : يسجد للسهو قبل السلام ، وقلنا نحن : بعد السلام ؟ برهان صحة قولنا - : أن الله - عز وجل - لما فرض عليه - بيقين مقطوع لا شك فيه ، ولا خلاف من أحد منهم ولا منا - : صلاة واحدة ، وهي التي فاتته ، فمن أمره بخمس صلوات ، أو ثمان صلوات ، أو ثلاث صلوات ، أو صلاتين ؟ فقد أمره - يقينا - بما لم يأمره الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وفرضوا عليه صلاة أو صلاتين أو صلوات ليست [ ص: 98 ] عليه ، وهذا باطل بيقين ، فلا يجوز أن يكلف إلا صلاة واحدة كما هي عليه ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          فسقط قول كل من ذكرنا ، حاشا قولنا ، وقول زفر ، والمزني ؟ فاعترضوا علينا بأن قالوا : إن النية للصلاة فرض عندنا وعندكم ، وأنتم تأمرونه بنية مشتركة لا تدرون أنها الواجب عليه ، وهذا الاعتراض إنما هو للذين أمروه بالخمس ، أو الثمان فقط ؟ قلنا لهم : نعم إن النية فرض عندنا وعندكم ، وأنتم تأمرونه لكل صلاة أمرتموه بها بنية مشكوك فيها أو كاذبة بيقين ولا بد من أحدهما .

                                                                                                                                                                                          لأنكم إن أمرتموه أن ينوي لكل صلاة أنها التي فاتته قطعا فقد أوجبتم عليه الباطل والكذب ، وهذا لا يحل ، لأنه ليس على يقين من أنها التي فاتته .

                                                                                                                                                                                          فإذا لم يكن على يقين منها ونواها قطعا فقد نوى الباطل ، وهذا حرام .

                                                                                                                                                                                          وإن أمرتموه أن ينوي في ابتداء كل صلاة منها أنها التي علم الله أنها فاتته فقد أمرتموه بما عبتم علينا ، سواء سواء ، لا بمثله ؟ ونحن نقول : إن هذه الملامة ساقطة عنه ، لأنه لا يقدر على غيرها أصلا ، وقد قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }

                                                                                                                                                                                          وقال عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } ؟ فقد سقطت عنه النية المعينة ، لعدم قدرته عليها ، وبقي عليه وجوب النية المرجوع فيها إلى علم الله تعالى ، إذ هو قادر عليها - وبالله تعالى التوفيق ، فسقط ذلك القول أيضا ؟ .

                                                                                                                                                                                          ثم قلنا لزفر ، والمزني : إنكم ألزمتموه جلسة بعد الركعة الثالثة لم يأمر الله تعالى بها قط ، ولا يجوز أن يلزم أحد إلا ما نحن على يقين من أن الله تعالى ألزمه إياه فسقط أيضا قولهما ، لأنهما دخلا في بعض ما أنكرا على غيرهما ؟ قال علي : وبرهان صحة قولنا - : هو أن الله تعالى إنما أوجب عليه صلاة واحدة فقط ، لا يدري أي صلاة هي ؟ فلا يقدر ألبتة على نية لها بعينها ، ولا بد له من نية مشكوك فيها أي صلاة هي ؟ فينوي أنه يؤدي الصلاة التي فاتته التي يعلمها الله تعالى ، [ ص: 99 ] فيصلي ركعتين ، ثم يجلس ويتشهد ، فإذا أتم تشهده فقد شك : أتم صلاته التي هي عليه إن كانت الصبح ، أو إن كانت صلاة تقصر في السفر ؟ أم صلى بعضها كما أمر ولم يتمها ، إن كانت صلاة تتم في الحضر ؟ أو كانت المغرب ؟ فإذا كان في هذه الحال فقد دخل في جملة من أمره النبي صلى الله عليه وسلم - إذا لم يدر كم صلى ؟ أن يصلي حتى يكون على يقين من التمام ، وعلى شك من الزيادة فيقوم إلى ركعة ثالثة ولا بد ، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية منها فقد شك : هل أتم صلاته التي عليه - إن كانت المغرب - فيقعد حينئذ ؟ أم بقيت عليه ركعة ، إن كانت الظهر ، أو العصر ، أو العتمة ، في حضر ؟ فإذا صار في هذه الحال فقد دخل في جملة من أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يدر كم صلى ؟ بأن يصلي حتى يكون على يقين من التمام وعلى شك من الزيادة ، فعليه أن يقوم إلى رابعة ، فإذا أتمها وجلس في آخرها وتشهد فقد أيقن بالتمام بلا شك ، وحصل في شك من الزيادة ، فليسلم حينئذ ، وليسجد كما أمره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وهذا هو الحق المقطوع على وجوبه - والحمد لله رب العالمين ؟ ويدخل على زفر ، والمزني - في إلزامهما إياه جلسة في الثالثة - أنهما ألزماه إفراد النية في تلك الجلسة أنها للمغرب خاصة ، وهذا خطأ ، لأنه إعمال يقين فيما لا يقين فيه ؟ فإن أيقن أنها من سفر صلى صلاة واحدة كما ذكرنا ، يقعد في الثانية ، ثم في الثالثة ويسلم ثم يسجد للسهو ؟ قال علي : فإن نسي ظهرا وعصرا لا يدري ؟ أمن يوم واحد أم من يومين ، أو يدري صلاهما فقط ، ولا يبالي أيهما قدم ؟ لأنه لم يوجب عليه غير ذلك نص سنة ولا قرآن ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ؟ وقال المالكيون : إن لم يدر أهي من يوم أم من يومين ؟ فليصل ثلاث صلوات إما ظهرا بين عصرين ، وإما عصرا بين ظهرين ؟ قال علي : وهذا تخليط ناهيك به وإنما يجب الترتيب ما دامت الأوقات قائمة [ ص: 100 ] مرتبة بترتيب الله تعالى لها ، وأما عند خروج بعض الأوقات فلا ؟ إذ لم يأت بذلك نص قرآن ولا سنة ولا إجماع - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية