الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة؛ ذكره بعده؛ وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة؛ تعريفا بالاهتمام به؛ ولأنه بلا واسطة؛ وقدم منه الرجل؛ لأنه أفضل؛ فقال: ولكم نصف ما ترك أزواجكم ؛ وبين شرط هذا بقوله: إن لم يكن لهن ولد ؛ أي: منكم؛ أو من غيركم؛ ثم بين الحكم على التقدير الآخر؛ فقال: فإن كان لهن ولد ؛ أي: وارث؛ وإن سفل؛ سواء كان ابنا؛ أو بنتا؛ فلكم الربع مما تركن ؛ أي: [ ص: 209 ] تركت كل واحدة منهن؛ ويغسلها الزوج؛ لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية؛ والأصل الحقيقة؛ ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت؛ وحل نكاح أختها؛ وأربع سواها؛ لأن ذلك لفقد المقتضي؛ أو المانع؛ وهو الحياة؛ وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل - كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق -؛ ثم كرر حكم الوصية اهتماما بشأنها؛ فقال: من بعد وصية يوصين بها ؛ أي: الأزواج؛ أو بعضهن؛ ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم؛ ينبغي أن يكون مستحضرا في الذهن؛ غير مغفول عنه؛ عند أحد من الناس؛ أو دين

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين إرث الرجل؛ أتبعه إرثها؛ فقال - معلما أنه على النصف مما للزوج - كما مضى في الأولاد -: ولهن ؛ أي: عددا كن؛ أو لا؛ الربع مما تركتم ؛ أي: يشتركن فيه؛ على السواء؛ إن كن عددا؛ وتنفرد به الواحدة؛ إن لم يكن غيرها؛ ثم بين شرطه بقوله: إن لم يكن لكم ولد ؛ ثم بين حكم القسم الآخر بقوله: فإن كان لكم ولد ؛ أي: [ ص: 210 ] وارث؛ فلهن الثمن مما تركتم ؛ كما تقدم في الربع؛ ثم كرر الخروج عن حق المورث فقال: من بعد وصية توصون بها أو دين

                                                                                                                                                                                                                                      ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة؛ أتبعه الثالث؛ وهو ما اتصل بواسطة؛ ولما كان قسمين - لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط؛ وهم الأخياف؛ أمهم واحدة وآباؤهم شتى؛ وتارة من جهة الأب فقط؛ وهم العلات؛ أبوهم واحد وأمهاتهم شتى؛ وتارة من جهة الأبوين؛ وهم الأعيان - وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها؛ فجعلها في قصتين؛ ذكر إحداهما هنا؛ إدخالا لها في حكم الوصية المفروضة؛ وختم بالأخرى السورة؛ لأن الختام من مظنات الاهتمام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب؛ قدمها هنا؛ دلالة على الاهتمام بشأنها؛ وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ؛ وجور عن منهاج العدل؛ فقال (تعالى): وإن كان ؛ أي: وجد؛ رجل يورث ؛ أي: من ورث حال كونه؛ كلالة ؛ أي: ذا حالة لا ولد له فيها؛ ولا والد؛ أو يكون "يورث"؛ من "أورث"؛ بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك؛ لا هو ولد للميت؛ ولا والد؛ [ ص: 211 ] ووارثه أيضا كلالة؛ لأنه ليس بوالد؛ ولا ولد؛ فالمورث كلالة وارثه؛ والوارث كلالة مورثه; قال الأصبهاني: "رجل كلالة"؛ و"امرأة كلالة"؛ و"قوم كلالة"؛ لا يثنى؛ ولا يجمع؛ لأنه مصدر؛ كـ "الدلالة"؛ و"الوكالة"؛ وهو بمعنى "الكلال"؛ وهو ذهاب القوة من الإعياء؛ وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد؛ والوالد؛ ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة؛ أو ؛ وجدت؛ امرأة ؛ أي: تورث كذلك؛ ويجوز أن يكون "يورث"؛ صفة؛ و"كلالة"؛ خبر "كان"؛ وله ؛ أي: للمذكور؛ وهو الموروث؛ على أي الحالتين كان؛ ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى؛ لضعفها؛ قال أخ أو أخت ؛ أي: من الأم - بإجماع المفسرين؛ وهي قراءة أبي؛ وسعد بن مالك - رضي الله عنهما - فلكل واحد منهما السدس ؛ أي: من تركته؛ من غير فضل للذكر على الأنثى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أفهم ذلك - أي: بتحويل العبارة المذكورة؛ من أن يقال: "فله السدس" - أنهما إن كانا معا كان لهما الثلث؛ وكان ذلك قد يفهم أنه [ ص: 212 ] إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث؛ نفاه بقوله: فإن كانوا ؛ أي: ما أفهمه "أخ أو أخت"؛ من الوراث منهم؛ أكثر من ذلك ؛ أي: واحد؛ كيف كانوا؛ فهم شركاء ؛ أي: بالسوية؛ في الثلث ؛ أي: المجتمع من السدسين؛ اللذين تقدم أنهما بينهما؛ لا يزادون على ذلك شيئا؛ ثم كرر الحث على مصلحة الميت؛ بيانا للاهتمام بها؛ فقال: من بعد وصية يوصى بها أو دين

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الميت قد يضار ورثته؛ أو بعضهم؛ بشيء يخرجه عنهم؛ ظاهرا أو باطنا؛ كأن يقر بماله لأجنبي؛ أو بدين لا حقيقة له؛ أو بدين كان له؛ بأنه استوفاه; ختم الآية بالزجر عن ذلك؛ بقوله: غير مضار ؛ مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة؛ بقوله: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ؛ قال الأصبهاني: والإضرار في الوصية من الكبائر؛ ثم أكد ذلك بقوله - مصدرا - ليوصيكم -: وصية من الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛ مع تأكيده بجميع ما في الآيات؛ تعظيما للأمر باكتناف الوصية بأولها؛ وآخرها؛ وهو دون الفريضة في حق الأولاد؛ لأن حقهم آكد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين - سبحانه - الأصول؛ وفصل النزاع؛ وكان ذلك خلاف مألوفهم؛ [ ص: 213 ] وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة; اقتضى الحال الوعظ بالترغيب؛ والترهيب؛ فختم القصة بقوله: والله ؛ أي: الجامع لصفات الكمال؛ من الجلال؛ والجمال؛ وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة؛ ثم قال: عليم ؛ أي: فلا يخفى عليه أمر من خالف؛ بقول أو فعل؛ نية أو غيرها؛ حليم ؛ فهو من شأنه ألا يعاجل بالعقوبة؛ فلا يغتر بإمهاله؛ فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت؛ فاحذروا غضب الحليم؛ وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية