الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين - سبحانه وتعالى - نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم؛ [ ص: 345 ] وتنشيطهم لغيرهم؛ كان ذلك سببا لأن يمضي - صلى الله عليه وسلم - لأمره - سبحانه وتعالى - من غير التفات إليهم؛ وافقوا أو نافقوا؛ فقال - سبحانه وتعالى - بعد الأمر بالنفر ثبات؛ وجميعا؛ وبيان أن منهم المبطئ؛ مشيرا إلى أن الأمر باق؛ وإن بطأ الكل -: فقاتل في سبيل الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛ ولو كنت وحدك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان كأنه قيل: فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا؟ قال - معلما بأنه قد جعله أشجع الناس؛ وأعلمهم بالحروب؛ وتدبيرها؛ وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته؛ ولم يكله إلى أحد -: لا تكلف إلا نفسك ؛ أي: ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك؛ وقد أعاذهم الله - سبحانه وتعالى - من ذلك؛ ولا ضرر عليك في الدنيا أيضا من تخليهم؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - ناصرك وحده؛ وليس النصر إلا بيده - سبحانه وتعالى -؛ وما كان - سبحانه وتعالى - ليأمره بشيء إلا وهو كفؤ له؛ فهو مليء بمقاتلة الكفار كلهم وحده؛ وإن كانوا أهل الأرض كلهم؛ ولقد عزم في غزوة "بدر"؛ الموعد - التي قيل: إنها سبب نزول هذه الآية - على الخروج إلى الكفار؛ ولو لم يخرج معه أحد; وقد اقتدى به صاحبه الصديق - رضي الله (تعالى) عنه - في قتال أهل الردة؛ فقال للصحابة - رضي الله (تعالى) عنهم -: "والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه: [ ص: 346 ] عائشة وأسماء - رضي الله (تعالى) عنهما - لقاتلتهم بهما".

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء؛ قال: وحرض المؤمنين ؛ أي: مرهم بالجهاد؛ وانههم عن تركه؛ وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه؛ وعظهم؛ واجتهد في أمرهم؛ حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا؛ حتى كأنهم - لشدة استعدادهم - حاضرون في الصف دائما؛ ثم استأنف الذكر؛ لثمرة ذلك؛ فقال: عسى الله ؛ أي: الذي استجمع صفات الكمال؛ أن يكف ؛ بما له من العظمة؛ بأس الذين كفروا ؛ أي: عن أن يمنعوك من إظهار الدين؛ بقتالك؛ وقتال من تحرضه؛ ولقد فعل - سبحانه وتعالى - ذلك؛ فصدق وعده؛ ونصر عبده؛ وهزم الأحزاب وحده؛ حتى ظهر الدين؛ ولا يزال ظاهرا حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى - عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك؛ قال - ترغيبا؛ وترهيبا؛ واحتراسا -: والله ؛ أي: الذي لا مثل له؛ أشد بأسا ؛ أي: عذابا؛ وشدة من المقاتلين؛ والمقاتلين؛ وأشد تنكيلا ؛ أي: تعذيبا؛ بأعظم العذاب؛ ليكون ذلك مهلكا للمعذب؛ ومانعا لغيره عن مثل فعله; قال الإمام أبو عبد الله القزاز: يقال: "نكلته تنكيلا"؛ إذا عملت به عملا يكون نكالا لغيره؛ أي: عبرة؛ فيرجع عن المراد من [ ص: 347 ] أجله؛ وهو أن الناظر إليه؛ والذي يبلغه ذلك؛ يخاف أن يحل به مثله؛ أي: فيكون له ذلك قيدا عن الإقدام; و"النكل"؛ بالكسر: القيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية