الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في تطهير الدباغ 55 - ( عن ابن عباس قال { : تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؟ فقالوا : إنها ميتة ، فقال : إنما حرم أكلها } . رواه الجماعة إلا ابن ماجه قال فيه : عن ميمونة ، جعله من مسندها وليس فيه للبخاري والنسائي ذكر الدباغ بحال ، وفي لفظ لأحمد : إن داجنا لميمونة ماتت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذكاته } . وهذا تنبيه على أن الدباغ إنما يعمل فيما تعمل فيه الذكاة .

                                                                                                                                            وفي رواية لأحمد والدارقطني يطهرها الماء والقرظ . رواه الدارقطني مع غيره وقال : هذه أسانيد صحاح ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            في الباب عن أم سلمة عند الطبراني في الأوسط والدارقطني ، وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف .

                                                                                                                                            وعن ميمونة عند مالك وأبي داود والنسائي وابن حبان والدارقطني بلفظ : [ ص: 83 ] { أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال : لو أخذتم إهابها فقالوا : إنها ميتة فقال : يطهرها الماء والقرظ } وصححه ابن السكن والحاكم

                                                                                                                                            قوله : ( أخذتم إهابها ) الإهاب ككتاب : الجلد أو ما لم يدبغ ، قاله في القاموس . قال أبو داود في سننه : قال النضر بن شميل : إنما يسمى إهابا ما لم يدبغ ، فإذا دبغ لا يقال له : إهاب ، إنما يسمى شنا وقربة ، وسيذكره المصنف فيما بعد .

                                                                                                                                            وفي الصحاح : ( والإهاب ) : الجلد ما لم يدبغ . وبقية الكلام على الإهاب تأتي في حديث عبد الله بن عكيم . قوله : ( إن داجنا ) الداجن : المقيم بالمكان ومنه الشاة إذا ألفت البيت . قوله : ( فإنه ذكاته ) أراد أن الدباغ في التطهير بمنزلة الذكاة في إحلال الشاة وهو تشبيه بليغ ، وأخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان من حديث الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق بلفظ : { دباغ الأديم ذكاته } قال الحافظ : وإسناده صحيح ، قال أحمد : الجون لا أعرفه ، وبهذا أعله الأثرم ، قال الحافظ : وقد عرفه غيره علي بن المديني ، وروى عنه - يعني الجون - ذلك الحسن وقتادة وصحح ابن سعد وابن حزم وغير واحد أن له صحبة ، وتعقب أبو بكر بن مفوز ذلك على ابن حزم .

                                                                                                                                            وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند الدارقطني وابن شاهين من طريق فليح عن زيد بن أسلم عن أبي وعلة عنه بلفظ { دباغ كل إهاب طهوره } وأصله في مسلم من حديث أبي الخير عن أبي وعلة بلفظ ( دباغه طهوره ) ورواه الدولابي في الكنى من حديث ابن عباس بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ذكاة كل مسك دباغه } ورواه البزار والطبراني والبيهقي عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في شاة ميمونة - { ألا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهوره } وفي إسناده ياقوت بن عطاء ضعفه يحيى بن معين وأبو زرعة .

                                                                                                                                            وأخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي من حديثه أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتوضأ من سقاء فقيل له : إنه ميتة فقال : دباغه يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه } وصححه الحاكم والبيهقي .

                                                                                                                                            وعن عائشة عند النسائي وابن حبان والطبراني والدارقطني والبيهقي بلفظ { دباغ جلود الميتة طهورها } وعن المغيرة بن شعبة عند الطبراني ، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني أيضا ، وعند الحاكم أبي أحمد في الكنى وفي تاريخ نيسابور . وعن أبي أمامة أيضا ، وعن ابن عمر عنده أيضا . وعند ابن شاهين وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عند البيهقي ، وأيضا عن أنس عند ابن منده . وعن جابر عنده أيضا ، وعن ابن مسعود عنده أيضا .

                                                                                                                                            الحديث المذكور في الباب يدل على طهارة أديم الميتة بالدباغ نص في الشاة المعينة التي هي السبب أو نوعه على الخلاف ، وظاهر فيما عداه لأن قوله : " إنما حرم من الميتة أكلها بعد قولهم إنها ميتة " ، يعم كل ميتة ، والأحاديث المذكورة في هذا الباب تدل على عدم اختصاص هذا الحكم بنوع من أنواع الميتة .

                                                                                                                                            [ ص: 84 ] وقد اختلف أرباب العلم في ذلك على أقوال سبعة ذكرها النووي في شرح مسلم وسنذكرها ههنا غير مقتصرين على المقدار الذي ذكره بل نضم إليه حجج الأقوال مع نسبة بعض المذاهب إلى جماعات من العلماء لم يذكرهم فنقول : المذهب الأول : أنه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره وإلى هذا ذهب الشافعي واستدل على استثناء الخنزير بقوله { : فإنه رجس } وجعل الضمير عائدا إلى المضاف إليه ، وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة ، قال : لأنه لا جلد له .

                                                                                                                                            قال النووي : وروي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب وابن مسعود . المذهب الثاني : أنه لا يطهر شيء من الجلود بالدباغ ، قال النووي : وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك ونسبه في البحر إلى أكثر العترة ، واستدلوا بحديث عبد الله بن حكيم الآتي بلفظ : { لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } وكان ذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر فكان ناسخا لسائر الأحاديث .

                                                                                                                                            وأجيب بأنه قد أعل بالاضطراب والإرسال كما سيأتي فلا ينتهض لنسخ الأحاديث الصحيحة ، وأيضا التاريخ بشهر أو شهرين كما سيأتي معل لأنه من رواية خالد الحذاء قد خالفه شعبة وهو أحفظ منه وشيخهما واحد ، ومع إعلال التاريخ يكون معارضا للأحاديث الصحيحة وهي أرجح منه بكل حال ، فإنه قد روي في ذلك : أعني تطهير . الدباغ للأديم خمسة عشر حديثا : عن ابن عباس حديثان . وعن أم سلمة ثلاثة . وعن أنس حديثان .

                                                                                                                                            وعن سلمة بن المحبق وعائشة والمغيرة وأبي أمامة وابن مسعود وشيبان وثابت وجابر وأثران عن سودة وابن مسعود ، على أنه لا حاجة إلى الترجيح بهذا ; لأن حديث ابن عكيم عام وأحاديث التطهير خاصة فيبنى العام على الخاص ، أما على مذهب من يبني العام على الخاص مطلقا كما هو قول المحققين من أئمة الأصول فظاهر ، وأما على مذهب من يجعل العام المتأخر ناسخا فمع كونه مذهبا مرجوحا لا نسلم تأخر العام هنا لما ثبت في أصول الأحكام والتجريد ، من كتب أهل البيت أن عليا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تنتفع من الميتة بإهاب ولا عصب فلما كان من الغد خرجت فإذا نحن بسلخة مطروحة على الطريق فقال : ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها ؟ فقلت : يا رسول الله أين قولك بالأمس فقال : ينتفع منها بالشيء } ولو سلمنا تأخر ابن عكيم لكان ما أسلفنا عن النضر بن شميل من تفسير الإهاب بالجلد الذي لم يدبغ .

                                                                                                                                            وما صرح به صاحب الصحاح ورواه صاحب القاموس كما قدمنا موجبا لعدم التعارض إذ لا نزاع في نجاسة إهاب الميتة قبل دباغه . فالحق أن الدباغ مطهر ، ولم يعارض أحاديثه معارض [ ص: 85 ] من غير فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل وهو مذهب الجمهور ، قال الحازمي : وممن قال بذلك يعني جواز الانتفاع بجلود الميتة ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن والشعبي وسالم يعني ابن عبد الله وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك والشافعي وأصحابه وإسحاق الحنظلي ، وهذا هو مذهب الظاهرية كما سيأتي .

                                                                                                                                            المذهب الثالث : أنه يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم ولا يطهر غيره . قال النووي وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه واحتجوا بما في الأحاديث من جعل الدباغ في الأهب كالذكاة ، وقد تقدم بعض ذلك ويأتي بعد . قالوا : والذكاة المشبه بها لا يحل بها غير المأكول فكذلك المشبه لا يطهر جلد غير المأكول ، وهذا إن سلم لا ينفي ما استفيد من الأحاديث العامة للمأكول وغيره ، وقد تقرر في الأصول أن العام لا يقصر على سببه فلا يصح تمسكهم بكون السبب شاة ميمونة .

                                                                                                                                            المذهب الرابع : يطهر جلود جميع الميتات إلا الخنزير ، قال النووي : وهو مذهب أبي حنيفة ، احتج بما تقدم في المذهب الأول .

                                                                                                                                            المذهب الخامس : يطهر الجميع إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فلا ينتفع به في المائعات ، قال النووي : وهو مذهب مالك المشهور في حكاية أصحابنا عنه انتهى . وهو تفصيل لا دليل عليه . المذهب السادس : يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا ، قال النووي : وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف وهو الراجح كما تقدم ، لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما . واحتجاج الشافعي بالآية على إخراج الخنزير وقياس الكلب عليه لا يتم إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى المضاف إليه دون المضاف وأنه محل نزاع ، ولا أقل من الاحتمال إن لم يكن رجوعه إلى المضاف راجحا والمحتمل لا يكون حجة على الخصم .

                                                                                                                                            وأيضا لا يمتنع أن يقال رجسية الخنزير على تسليم شمولها لجميعه لحما وشعرا وجلدا وعظما مخصصة بأحاديث الدباغ . المذهب السابع : أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات ، قال النووي : وهو مذهب الزهري وهو وجه شاذ لبعض أصحابنا لا تعريج عليه ولا التفات إليه انتهى . واستدل لذلك بحديث الشاة باعتبار الرواية التي لم يذكر فيها الدباغ ولعله لم يبلغ الزهري بقية الروايات وسائر الأحاديث ، وقد رده في البحر بمخالفة الإجماع .

                                                                                                                                            56 - ( وعن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أيما إهاب دبغ [ ص: 86 ] فقد طهر } . رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي ، وقال : قال إسحاق عن النضر بن شميل إنما يقال الإهاب لجلد ما يؤكل لحمه ) .

                                                                                                                                            57 - ( وعن ابن عباس عن { سودة زوج النبي قالت : ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ، ثم مازلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا } . رواه أحمد والنسائي والبخاري وقال : إن سودة مكان عن ) .

                                                                                                                                            58 - ( وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت } . رواه الخمسة إلا الترمذي . وللنسائي { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة فقال : دباغها ذكاتها } . وللدارقطني عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { طهور كل أديم دباغه } . قال الدارقطني إسناده كلهم ثقات ) . .

                                                                                                                                            الحديث الأول قال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه الشافعي وابن حبان والدارقطني بإسناد على شرط الصحة ، وقال : إنه حسن . ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث جابر .

                                                                                                                                            والحديث الثالث أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والبيهقي . قوله : ( لجلد ما يؤكل لحمه ) هذا يخالف ما قدمنا عن أبي داود أن النضر بن شميل فسر الإهاب بالجلد قبل أن يدبغ ولم يخصه بجلد المأكول ، ورواية أبي داود عنه أرجح لموافقتها ما ذكره أهل اللغة كصاحب الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها .

                                                                                                                                            والمبحث لغوي فيرجح ما وافق اللغة ، ولم نجد في شيء من كتب اللغة ما يدل على تخصيص الإهاب بإهاب مأكول اللحم كما رواه الترمذي عنه . قوله : ( مسكها ) بفتح الميم وإسكان السين المهملة هو الجلد . قوله : ( شنا ) بفتح الشين المعجمة بعدها نون : أي قربة خلقة . قوله : ( دباغها ذكاتها ) استدل بهذا من قال إنه يطهر بالدبغ جلد ميتة المأكول فقط . وقد تقدم الجواب عليه . قوله : ( طهور كل أديم ) وكذا قوله أيما إهاب دبغ يشملان جلود ما لا يؤكل لحمه كالكلب والخنزير وغيرهما شمولا ظاهرا . وقد تقدم البحث في ذلك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية