الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 649 ]

                                96 - باب

                                الصلاة بين السواري في غير جماعة

                                482 504 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، فكنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالا: أين صلى؟ فقال: بين العمودين المقدمين.

                                483 505 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودا عن يساره، وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة - ثم صلى .

                                وقال إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن يمينه

                                التالي السابق


                                قد دل هذان الحديثان على أن البيت الحرام كان فيه ستة أعمدة حين دخله النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الأعمدة صفين، في كل صف ثلاثة أعمدة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأعمدة الثلاثة التي تلي باب البيت خلف ظهره، وتقدم إلى الأعمدة المتقدمة، فصلى بين عمودين منها.

                                وفي رواية مالك التي ذكرها البخاري - تعليقا -: أنه جعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره.

                                وقد خرجها مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

                                وهذا يدل على أنه كان إلى جهة الركن اليماني أقرب منه من جهة الحجر.

                                [ ص: 650 ] ويشهد لذلك - أيضا -: رواية سالم ، عن أبيه ، أنه سأل بلالا : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، بين العمودين اليمانيين.

                                وقد خرجها البخاري في "الحج".

                                والمراد باليمانيين: ما يلي جهة الركن اليماني.

                                ويدل عليه - أيضا -: حديث مجاهد ، عن ابن عمر ، أنه سأل بلالا : أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ؟ قال: نعم، بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخل.

                                وقد خرجه البخاري في "أبواب استقبال القبلة" وقد مضى.

                                وقد روى عبد العزيز بن أبي رواد ، قال: حدثني نافع ، أن ابن عمر سأل بلالا : أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند الباب، قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.

                                خرجه الأزرقي .

                                وقوله: " السارية الثانية عند الباب " كأنه يريد السارية الثانية مما يلي الباب; فإن الباب يليه سارية من الصف المؤخر، ثم يليها سارية ثانية من الصف المقدم، وهي السارية الوسطى من ذلك الصف.

                                وقوله: " صلى عن يمينها " يوهم أنه جعلها عن يساره حتى يكون مصليا عن يمينها، وعلى هذا التقدير فيكون قد جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره.

                                وهذا يخالف رواية مالك المتقدمة، وتلك الرواية مع ما عضدها وشهد لها أصح من رواية ابن أبي رواد ، ويزيد بن أبي زياد التي ذكرناها في الباب الماضي.

                                [ ص: 651 ] وقوله في رواية ابن أبي رواد : "تقدم عنها شيئا" يدل على أنه صلى متقدما عنها إلى مقدم البيت، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أنه صلى الله عليه وسلم جعل بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع.

                                وقد روى الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي الشعثاء - وهو: سليم المحاربي - قال: خرجت حاجا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، فجاء ابن عمر فصلى إلى جنبي، فلما صلى قلت له: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ قال: أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى هاهنا.

                                خرجه الإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه".

                                وفيه: دليل على أنه صلى متقدما على الساريتين، وإن لم يكن جعلهما خلف ظهره، كما جعل الأعمدة الثلاثة المتأخرة التي تلي باب البيت، فإنه جعلها وراء ظهره في صلاته.

                                ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى بين ساريتين منفردا، كمن يصلي تطوعا; فإنه لا يكره له ذلك كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ، وكان ابن عمر يفعله.

                                وكذا لو صلى جماعة، وكان إمامهم، ووقف بين الساريتين وحده، وقد فعل ذلك سعيد بن جبير وسويد بن غفلة .

                                ورخص فيه سفيان للإمام وكرهه للمأمومين.

                                وإنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، فلو صلى اثنان أو ثلاثة جماعة بين ساريتين لم يكره - أيضا - هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم من العلماء.

                                [ ص: 652 ] وعلى مثل ذلك حملوا ما ورد من النهي عنه - مرفوعا، وموقوفا.

                                فالمرفوع: روي من حديث سفيان ، عن يحيى بن هانئ بن عروة المرادي ، عن عبد الحميد بن محمود ، قال: صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس بن مالك : كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" والحاكم ، وقال: صحيح.

                                وقال الترمذي : حديث حسن.

                                وعبد الحميد هذا ابن محمود المعولي البصري ، روى عنه جماعة، وقال أبو حاتم : هو شيخ.

                                ويحيى بن هانئ المرادي كوفي ثقة مشهور.

                                وروى هارون بن مسلم أبو مسلم ، عن قتادة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه، قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا .

                                خرجه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" والحاكم وصححه.

                                وقال ابن المديني : إسناده ليس بالصافي. قال: وأبو مسلم هذا مجهول.

                                وكذا قال أبو حاتم : هو مجهول.

                                [ ص: 653 ] وليس هو بصاحب الحناء; فإن ذاك معروف، وقد فرق بينهما مسلم في كتاب "الكنى" وأبو حاتم الرازي .

                                وفيه: عن ابن عباس - مرفوعا - ولا يثبت.

                                قال ابن المنذر : لا أعلم في هذا خبرا يثبت.

                                وقد روي النهي عنه، عن حذيفة وابن مسعود وابن عباس ، وهو قول النخعي ، وحكاه الترمذي عن أحمد وإسحاق .

                                وقد نص أحمد على كراهة الصلاة بين الأساطين مطلقا من غير تفصيل، نقله عنه جماعة، منهم: أبو طالب وابن القاسم ، وسوى في روايته بين الجمعة وغيرها.

                                ونقل عنه حرب : يكره ذلك، قلوا أو كثروا، وإن كانوا عشرة.

                                وصرح أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في "كتاب الشافي" بكراهة قيام الإمام بين السواري.

                                وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: إنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، وحملوا كلام أحمد على ذلك.

                                ويشهد له: ما نقله ابن منصور ، عن أحمد ، وقد سأله: هل يقوم الإمام بين الساريتين يؤم القوم؟ قال: إنما يكره للصف، إذا كان يستتر بشيء فلا بأس.

                                قال إسحاق بن راهويه كما قال.

                                وكذا نقل حرب ، عن إسحاق أنه يكره ذلك للصف، ولا يكره لمن صلى وحده.

                                ورخص فيه ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وابن المنذر .

                                [ ص: 654 ] وفي "تهذيب المدونة" للمالكية: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد.

                                وقد روي عن حذيفة أنه كرهه لقطع الصفوف - أيضا.

                                قال أبو نعيم : ثنا زفر - وهو ابن عبد الله ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن هلال بن يساف قال: كان حذيفة يكره أن نقوم بين الأسطوانتين لتقطع الصفوف.

                                ومن أهل الحديث من حمل الكراهة على من صلى وحده مع الجماعة بين السواري؛ لأنه يصير فذا، بخلاف من صلى مع غيره.

                                وهذا بعيد جدا، ولا فرق في هذا بين ما بين السواري وغيرها.



                                الخدمات العلمية