الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1711 [ ص: 164 ] [ ص: 165 ] حديث ثالث لأبي الزبير .

مالك عن أبي الزبير عن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يأكل الرجل بشماله ، أو يمشي في نعل واحدة ، وأن يشتمل الصماء ، وأن يتحبى في ثوب واحد كاشفا عن فرجه .

التالي السابق


قد مضى القول في الأكل بالشمال في باب ابن شهاب عن أبي بكر بن عبيد الله بن عمر ، وليس في الأكل بالشمال ما يحتاج إلى تفسير ; لأن كل سامع له يستوون في فهمه ، وكذلك النهي عن المشي في نعل واحدة يستوي أيضا لفظه ومعناه في الفهم ، ومن فعل شيئا من ذلك عالما بالنهي مستخفا به فهو لله عاص ، وأمره إليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ، فلا ينبغي للمرء أن يمشي في نعل واحدة .

[ ص: 166 ] وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تنكر على أبي هريرة حديثه بهذا ، وليس في إنكار من أنكر حجة على من علم ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها رأته يمشي في نعل واحدة ، ولا يصح حديثها ذلك . وقد روى هذا الحديث مع جابر أبو هريرة وغيره ، وهو صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه ، ولا يمش في خف واحدة ، ولا يأكل بشماله .

وروى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يمشين أحدكم في النعل الواحدة .

[ ص: 167 ] وأما قوله في هذا الحديث " وأن يشتمل الصماء " فللعلماء وأهل اللغة في ذلك أقوال ، وقد جاء في الآثار المرفوعة ما هو أولى ما قيل به فيها إن شاء الله .

قال ابن وهب : اشتمال الصماء أن يرمي بطرفي الثوب جميعا على شقه الأيسر ، وقد كان مالك بن أنس أجازها على ثوب ، ثم كرهها .

وفي سماع ابن القاسم سئل مالك عن الصماء كيف هي ؟ قال : يشتمل الرجل ثم يلقي الثوب على منكبيه ويخرج يده اليسرى من تحت الثوب وليس عليه إزار ، قيل له : أرأيت إن لبس هكذا وليس عليه إزار ؟ قال : لا بأس بذلك .

قال ابن القاسم : ثم كرهه بعد ذلك ، وإن كان عليه إزار .

قال ابن القاسم : وتركه أحب إلي للحديث ولست أراه ضيقا إذا كان عليه إزار .

قال مالك : والاضطباع أن يرتدي الرجل فيخرج ثوبه من تحت يده اليمنى . قال ابن القاسم : وأراه من ناحية الصماء .

وقال أبو عبيد : قال الأصمعي : اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلل به جسده كله ، ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده ، وربما اضطجع فيه على تلك الحال . قال [ ص: 168 ] أبو عبيد : كأنه يذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه ، وأن يقيه بيده ، فلا يقدر على ذلك لإدخاله إياها في ثيابه ، فهذا كلام العرب . قال : وأما تفسير الفقهاء فإنهم يقولون هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره ، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه .

قال أبو عبيد : والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا ، وذلك أصح معنى في الكلام .

وقال الأخفش : الاشتمال أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدميه يرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر ، هذا هو الاشتمال ، فإن لم يرد طرفه الأيمن على منكبه الأيسر وتركه مرسلا إلى الأرض فذلك السدل الذي نهي عنه ، قال : وقد روي في هذا الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل وقد سدل ثوبه فعطفه عليه حتى صار مشتملا قال : فإن لم يكن على الرجل إلا ثوب واحد فاشتمل به ، ثم رفع الثوب عن يساره حتى ألقاه عن منكبه ، فقد انكشف شقه الأيسر كله ، وهذا هو اشتمال الصماء الذي نهي عنه ، فإن هو أخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى فألقاه على منكبه الأيمن ، وألقى طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليسرى على منكبه الأيسر ، فهذا التوشح الذي جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به .

[ ص: 169 ] قال : وأما الاضطباع فإنه للمحرم ، وذلك أنه يكون مرتديا بالرداء أو مشتملا فيكشف منكبه الأيمن حتى يصير الثوب تحت إبطيه ، وهذا معنى الحديث الذي جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه طاف وسعى مضطبعا ببرد أخضر ، ويروى عن عمر بن عبد العزيز مثله ، قال : والارتداء أن تأخذ بطرفي الثوب فتلقيهما على صدرك ومنكبيك , وسائر الثوب خلفك .

قال أبو عمر : الذي جعله أبو داود تفسير اللبسة الصماء , حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين : أن يحتبي الرجل مفضيا بفرجه إلى السماء ، ويلبس ثوبا واحدا جانبه خارج ، ويلقي ثوبه على عاتقه ذكره عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش .

وقد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا المطلب بن شعيب قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب أنه قال : أخبرني عامر بن سعد أن أبا سعيد الخدري قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين : اشتمال الصماء ، [ ص: 170 ] والصماء أن يجعل طرفي ثوبه على أحد عاتقيه ويبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب ، واللبسة الأخرى احتباؤه بثوب وهو جالس ليس على فرجه منه شيء .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : أخبرنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين : اشتمال الصماء ، وأن يحتبي الرجل بثوب واحد ليس على عورته منه شيء .

وأخبرنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا جعفر بن برقان عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين : الصماء ، وهو أن يلتحف بالثوب الواحد ثم يرفع جانبه على منكبيه ليس عليه ثوب غيره ، أو يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس بين فرجه وبين السماء شيء ، يعني سترا .

وعن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد على أحد شقيه .

وبهذا فسر ابن وهب الصماء [ ص: 171 ] - والله أعلم - ، إلا أنه قال : على شقه الأيسر . وسيأتي من هذا المعنى ذكر كاف في باب أبي الزناد ، وقد مضى القول مستوعبا في ستر العورة في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب والحمد لله .

وأما كشف الفرج فحرام في هذه اللبسة وفي غيرها ، لا يحل لأحد أن يبدي عورته ويكشف فرجه إلى آدمي ينظر إليه من رجل أو امرأة إلا من كانت حليلته : امرأته أو سريته ، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين المسلمين ، وحسبك قول الله - عز وجل - : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وأجمعوا أنه أراد بذلك ستر العورة ; لأنهم كانوا يطوفون عراة فنزلت هذه الآية ، وأجمعوا على أن ستر العورة فرض عن عيون الآدميين .

واختلفوا : أهي من فرائض الصلاة أم لا ؟ وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع ، وقد كانوا يستحبون أن لا يكشف أحد عورته في الخلاء ، وقد روينا أن في بعض ما أوحى الله - عز وجل - إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إن استطعت أن لا تري الأرض عورتك فافعل ، فاتخذ السراويل ، وهو أول من اتخذها ، وقال الله تعالى ملة أبيكم إبراهيم .




الخدمات العلمية