الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 47 ] إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا الجملة بيان لجملة ( قد ضلوا ضلالا بعيدا ) ، لأن السامع يترقب معرفة جزاء هذا الضلال فبينته هذه الجملة .

وإعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة ( وظلموا ) ، ولأن في تكرير الصلة تنديدا عليهم . ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية التي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله ( إن الذين كفروا وظلموا ) إما أن يراد به ظلم النفس ، وظلم النبيء والمسلمين ، وذلك اللائق بأهل الكتاب ، وإما أن يراد به الشرك ، كما هو شائع في استعمال القرآن ، قوله إن الشرك لظلم عظيم ، فيكون من عطف الأخص على الأعم في الأنواع ، وإما أن يراد به التعدي على الناس ، كظلمهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - بإخراجه من أرضه ، وتأليب الناس عليه ، وغير ذلك ، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله ، وإخراجهم ، ومصادرتهم في أموالهم ، ومعاملتهم بالنفاق والسخرية والخداع ، وإما أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم مما استقر عند أهل العقول أنه ظلم وعدوان .

وقوله ( لم يكن الله ليغفر لهم ) صيغة جحود ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب في سورة آل عمران ، فهي تقتضي تحقيق النفي ، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر والظلم ، لأن هذا الحكم نيط بالوصف ولم ينط بأشخاص معروفين ، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الذين كفروا وظلموا . ومعنى نفي ( أن يهديهم طريقا ) : إن كان طريق يوم القيامة فهو واضح : أي لا يهديهم طريقا يوصلهم إلى مكان إلا طريقا يوصل إلى جهنم . ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا ، كقوله اهدنا الصراط المستقيم . فنفي هديهم إليه [ ص: 48 ] إنذار بأن الكفر والظلم من شأنهما أن يخيما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدى إليه ، ليحذر المتلبس بالكفر والظلم من التوغل فيهما ، فلعله أن يصبح ولا مخلص له منهما . ونفي هدى الله إياهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها . وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة ، وكثيرا ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم ، وآيات قبول التوبة ، وكذلك مشاهدة الواقع ، مما يهدي إلى تأويل هذه الآية ، وتقدم نظير هذه الآية قريبا ، أي ( الذين آمنوا ثم كفروا ) الآية .

وقوله ( إلا طريق جهنم ) استثناء متصل إن كان الطريق الذي نفى هديهم إليه الطريق الحقيقي ، ومنقطع إن أريد بالطريق الأول الهدى . وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضده ; لأن الكلام مسوق للإنذار ، والاستثناء فيه رائحة إطماع ، ثم إذا سمع المستثنى تبين أنه من قبيل الإنذار . وفيه تهكم لأنه استثنى من الطريق المعمول ليهديهم ، وليس الإقحام بهم في طريق جهنم بهدي لأن الهدي هو إرشاد الضال إلى المكان المحبوب .

ولذلك عقبه بقوله ( وكان ذلك ) أي الإقحام بهم في طريق النار ( على الله يسيرا ) إذ لا يعجزه شيء ، وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية