الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 719 ] 106 - باب

                                إذا حمل جارية صغيرة على عنقه

                                494 516 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة ابن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها

                                التالي السابق


                                " أمامة " هذه التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته هي بنت ابنته زينب ، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأم أبي العاص: هالة بنت خويلد ، أخت خديجة بنت خويلد .

                                وفي رواية مالك لهذا الحديث: " أبو العاص بن ربيعة " وكذا رواه عامة رواة "الموطأ" عنه.

                                والصواب: ابن الربيع .

                                وقد خرجه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك على الصواب.

                                وأمامة ، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة عليها السلام.

                                وقد خرج مسلم هذا الحديث من طريق مالك .

                                وخرجه - أيضا - من طريق سفيان بن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان ، سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث، عن عمرو بن سليم الزرقي ، عن أبي قتادة ، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة ابنة أبي العاص - [ ص: 720 ] وهي بنت زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم - على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها.

                                ومن طريق ابن وهب : أخبرني مخرمة ، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي ، قال: سمعت أبا قتادة الأنصاري يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس، وأمامة ابنة أبي العاص على عنقه، فإذا سجد وضعها.

                                ومن طريق سعيد المقبري ، عن عمرو بن سليم ، سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بنحوه، غير أنه لم يذكر أنه أم الناس في تلك الصلاة.

                                وخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق ، عن المقبري ، عن عمرو بن سليم ، عن أبي قتادة ، قال: بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عاتقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه، فقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، قال: فكبر فكبرنا. قال: حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته.

                                وخرج الزبير بن بكار في كتابه "الجمهرة" بإسناد له عن عمرو بن سليم الزرقي ، أن الصلاة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل أمامة صلاة الصبح .

                                وهو مرسل، ضعيف الإسناد.

                                فمجموع هذه الروايات يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة بالناس إماما [ ص: 721 ] لهم في صلاة الفريضة، وهو حامل أمامة ، وأنه كان إذا ركع وسجد وضعها بالأرض، فإذا قام إلى الركعة الثانية عاد إلى حملها، إلى أن فرغ من صلاته.

                                والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلا عن أن يبطلها.

                                وقد أخذ بذلك كثير من العلماء أو أكثرهم:

                                فقال الحسن والنخعي : ترضع المرأة جنينها وهي تصلي.

                                خرجه الأثرم عنهما بإسناد صحيح.

                                وروى - أيضا - بإسناد صحيح، عن ابن مسعود ، أنه ركع ثم سجد، فسوى الحصى، ثم خبطه بيده .

                                قال الأثرم : وسئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن الرجل يكبر للصلاة وبين يديه رمح منصوب، فيريد أن يسقط فيأخذه فيركزه مرة أخرى - وقيل له: حكوا عن ابن المبارك أنه أمر رجلا صنع هذا أن يعيد التكبير -؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس أن لا يعيد التكبير، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الفرض بالناس وأمامة على عاتقه.

                                قال: وسمعت أبا عبد الله سئل: أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم.

                                قال: وأخبرني محمد بن داود المصيصي ، قال: رأيت أبا عبد الله رأى رجلا قد خرج عن الصف، فرده وهو في الصلاة.

                                قال: وربما رأيته يسوي نعليه برجليه في الصلاة.

                                وقال الجوزجاني في كتابه "المترجم": حدثني إسماعيل بن سعيد ، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن حمل صبيا ووضعه في صلاته، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلاته جائزة.

                                قلت له: فمن فعل في صلاته فعلا كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة، [ ص: 722 ] فأخذها حين انفلتت منه، وهو في صلاته؟ فقال: صلاته جائزة.

                                وبه قال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة .

                                وقال ابن أبي شيبة : من فعل ذلك على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رجونا أن تكون صلاته تامة.

                                قال: ويجزئ عمن فعل كفعل أبي برزة في صلاته.

                                قال الجوزجاني : وأقول: إن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم نجاة لا رجاء، وإنما الرجاء في اتباع غيره فيما لم يكن عنه صلى الله عليه وسلم.

                                ثم خرج حديث أبي قتادة في حمل أمامة بإسناده.

                                ومراده: الإنكار على ابن أبي شيبة في قوله: "أرجو" وأن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فيه رجاء; فإنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك نجاة وفلاح.

                                وحديث أبي برزة في اتباع فرسه وأخذها في صلاته، قد خرجه البخاري ، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

                                وحكى ابن المنذر عن الشافعي وأبي ثور جواز حمل الصبي في الصلاة المفروضة.

                                وإذا عرفت هذا تبين لك ضعف ما قاله ابن عبد البر : إنه لا نعلم خلافا أن هذا العمل في الصلاة مكروه، ولم يحك كراهته عن أحد إلا عن مالك ، فإنه قال: ذكر أشهب عن مالك أن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة، وأن مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة، وحكى عن بعض أهل العلم أنه لا يحب لأحد فعل ذلك في صلاته، ولا يرى عليه إعادة به.

                                وقد تبين أن أكثر العلماء أجازوه من غير كراهة، وتخصيصه بالنافلة مردود [ ص: 723 ] بالنصوص المصرحة بأنه فعل ذلك في الفريضة، وهو يؤم الناس فيها.

                                وروى الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث عبد الله بن يوسف ، عن مالك أنه قال - بعد روايته هذا الحديث -: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.

                                ومالك إنما يشير إلى عمل من لقيه من فقهاء أهل المدينة خاصة كربيعة ونحوه، وقد عمل به فقهاء أهل العراق كالحسن والنخعي ، وفقهاء أهل الحديث، ويتعذر على من يدعي نسخه الإتيان بنص ناسخ له.

                                وقد رخص عطاء في ذلك - أيضا -:

                                قال عبد الرزاق : عن ابن جريج ، قلت لعطاء : امرأة يبكي ابنها وهي في الصلاة أتتوركه: قال: نعم؛ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ حسنا في الصلاة فيحمله حتى إذا سجد وضعه. قلت: في المكتوبة؟ قال: لا أدري.

                                وقال حرب الكرماني : ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عمر بن علي : ثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في الرجل يصلي ومعه المتاع بين يديه، فيتقدم الصف أو يتأخر فيحني ظهره، فيقدم متاعه أو يؤخره؟ قال: لا بأس به.

                                قال حرب : قلت لأحمد : الرجل يكون في الصلاة فيسقط رداؤه عن ظهره، أيحمله؟ قال: أرجو أن لا يضيق ذلك. قلت: فيفتح الباب بحيال القبلة؟ قال: في التطوع.

                                قال حرب : وثنا المسيب بن واضح ، قال: سمعت ابن المبارك سئل عن الرجل يكون معه الثوب أو غيره، فيضعه بين يديه في الصلاة، فيتقدم الصفوف، أو يتأخر، فيتناول ذلك الشيء، ويتقدم ويتأخر؟ قال: لا بأس بذلك. قيل: وما وقت ما يمشي المصلي في صلاته؟ قال: ما لا يخرج إلى حد المشي.

                                وقال الخطابي : في هذا الحديث من الفقه أن من صلى وعلى ظهره أو [ ص: 724 ] عاتقه كارة أو نحوها لم تبطل صلاته، ما لم يحتج لإمساكه إلى عمل كثير، أو التزام له ببعض أعضائه.

                                قال: ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعمد لحملها; لأن ذلك يشغله عن صلاته وعن الخشوع فيها، وأنها كانت إذا سجد جاءت فتعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فيخليها وشأنها، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها إلى الأرض، حتى إذا سجد وأراد النهوض عاد إلى مثله.

                                قلت: هذا تبطله الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه خرج على الناس وهو حاملها، ثم صلى لهم وهو حاملها.

                                وفي حديث أبي قتادة : دليل على أن حمل الجارية الصغيرة في الصلاة ووضعها ليس بمبطل للصلاة، ولا هو بداخل فيما يبطل الصلاة من مرور المرأة بين يدي المصلي ; فإن هذا ليس بمرور، وأكثر ما فيه أنه كان يضعها بين يديه، وليس هذا بأكثر من صلاته إلى عائشة وهي معترضة بين يديه، بل هذا أهون; لأن ذلك لم يكن يستمر في جميع صلاته. وأيضا فهذه صغيرة لم تكن بلغت حينئذ.

                                وقد سبق في حديث أن زينب بنت أم سلمة مرت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلم يقطع صلاته، وكانت زينب حينئذ صغيرة، وأن المرأة إذا أطلقت لم يرد بها إلا المرأة البالغ.

                                وهذا هو المعنى الذي بوب البخاري عليه هنا، وخرج الحديث لأجله.

                                وفيه - أيضا -: دليل على طهارة ثياب الأطفال ; فإنه لو كان محكوما بنجاستها لم يصل وهو حامل لأمامة .

                                وقد نص الشافعي وغيره على طهارتها، ومن أصحاب الشافعي من حكى [ ص: 725 ] لهم قولين في ذلك.

                                ومنع ابن أبي موسى من أصحابنا من الصلاة في ثيابهم حتى تغسل; لأنهم لا يتنزهون من البول.

                                وروى أبو نعيم الفضل بن دكين في "كتاب الصلاة": ثنا مندل : ثنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحارث العكلي ، عن إبراهيم النخعي ، قال: كانوا يكرهون أن يصلوا في ثياب الصبيان .

                                إسناده ضعيف.

                                وقد كره الصلاة في ثيابهم كثير من أصحابنا، وحكي مثله عن الحسن ، ورخص فيه آخرون، وهو اختيار بعض أصحابنا، وهذا أصح، وهذا الحديث نص في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.



                                الخدمات العلمية