الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8358 ) مسألة ; قال : ( من لم يكن من الرجال والنساء عاقلا ، مسلما ، بالغا ، عدلا ، لم تجز شهادته ) وجملته أن يعتبر في الشاهد سبعة شروط ; أحدها ، أن يكون عاقلا ، ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل ، إجماعا . قاله ابن المنذر . وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية ; وذلك لأنه ليس بمحصل ، ولا تحصل الثقة بقوله ، ولأنه لا يأثم بكذبه ، ولا يتحرز منه . الثاني ، أن يكون مسلما ، ونذكر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            الثالث ، أن يكون بالغا ، فلا تقبل شهادة صبي لم يبلغ بحال ، يروى هذا عن ابن عباس . وبه قال [ ص: 167 ] القاسم ، وسالم ، وعطاء ، ومكحول ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، وأصحابه . وعن أحمد رحمه الله ، رواية أخرى ، أن شهادتهم تقبل في الجراح ، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها ، وهذا قول مالك ; لأن الظاهر صدقهم وضبطهم ، فإن تفرقوا لم تقبل شهادته ; لأنه يحتمل أن يلقنوا . ابن الزبير : إن أخذوا عند مصاب ذلك ، فبالأحرى أن يعقلوا ويحفظوا .

                                                                                                                                            وعن الزهري ، أن شهادتهم جائرة ، ويستحلف أولياء المشجوج . وذكره عن مروان . وروي عن أحمد ، رواية ثالثة ، أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر . قال ابن حامد : فعلى هذه الرواية ، تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص ، كالعبيد . وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض . وروي ذلك عن شريح ، والحسن ، والنخعي .

                                                                                                                                            قال إبراهيم : كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم . قال المغيرة : وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ، ولا على عبد . وروى الإمام أحمد ، بإسناده عن مسروق ، قال : كنا عند علي ، فجاءه خمسة غلمة فقالوا : إنا كنا ستة غلمة نتغاط ، فغرق منا غلام . فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرقاه ، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه ، فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية ، وجعل على الثلاثة خمسيها . وقضى بنحو هذا مسروق . والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شيء ; لقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } . وقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

                                                                                                                                            وقال : { ممن ترضون من الشهداء } . والصبي ممن لا يرضى . وقال : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } . فأخبر أن الشاهد الكاتم لشهادته آثم ، والصبي لا يأثم ، فيدل على أنه ليس بشاهد ; ولأن الصبي لا يخاف من مأثم الكذب ، فيزعه عنه ، ويمنعه منه ، فلا تحصل الثقة بقوله ، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار ، لا تقبل شهادته على غيره ، كالمجنون ، يحقق هذا أن الإقرار أوسع ; لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ، ولا تصح الشهادة منهم ، ولأن من لا تقبل شهادته في المال ، لا تقبل في الجراح ، كالفاسق ، ومن لا تقبل شهادته على من ليس بمثله ، لا تقبل على مثله ، كالمجنون .

                                                                                                                                            الشرط الرابع ، العدالة ; لقول الله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } . ولا تقبل شهادة الفاسق لذلك ، ولقول الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } . فأمر بالتوقف عن نبأ الفاسق ، والشهادة نبأ ، فيجب التوقف عنه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا محدود في الإسلام ، ولا ذي غمر على أخيه } . رواه أبو عبيد . وكان أبو عبيد لا يراه خص الخائن والخائنة أمانات الناس ، بل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به أو اجتنابه ، من صغير ذلك وكبيره ، قال الله تعالى : { إنا [ ص: 168 ] عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } .

                                                                                                                                            وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا يؤسر رجل بغير العدول . ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين ، فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب ، فلا تحصل الثقة بخبره . إذا تقرر هذا ، فالفسوق نوعان ; أحدهما ، من حيث الأفعال ; فلا نعلم خلافا في رد شهادته . والثاني ، من جهة الاعتقاد ، وهو اعتقاد البدعة ، فيوجب رد الشهادة أيضا . وبه قال مالك ، وشريك ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . وقال شريك : أربعة لا تجوز شهادتهم ; رافضي يزعم أن له إماما مفترضة طاعته . وخارجي يزعم أن الدنيا دار حرب . وقدري يزعم أن المشيئة إليه . ومرجئ . ورد شهادة يعقوب ، وقال : ألا أرد شهادة من يزعم أن الصلاة ليست من الإيمان ؟

                                                                                                                                            وقال أبو حامد ، من أصحاب الشافعي : المختلفون على ثلاثة أضرب ; ضرب اختلفوا في الفروع ، فهؤلاء لا يفسقون بذلك ، ولا ترد شهادتهم ، وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين . الثاني ، من نفسقه ولا نكفره ، وهو من سب القرابة ، كالخوارج ، أو سب الصحابة ، كالروافض ، فلا تقبل لهم شهادة لذلك . الثالث ، من نكفره ، وهو من قال بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وأضاف المشيئة إلى نفسه ، فلا تقبل له شهادة . وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء .

                                                                                                                                            قال : وقال أحمد : ما تعجبني شهادة الجهمية ، والرافضة ، والقدرية المعلنة . وظاهر قول الشافعي ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبي حنيفة وأصحابه ، قبول شهادة أهل الأهواء . وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ، ممن يرى الاعتزال . قال الشافعي : إلا أن يكونوا ممن يرى الشهادة بالكذب بعضهم لبعض ، كالخطابية ، وهم أصحاب أبي الخطاب . يشهد بعضهم لبعض بتصديقه . ووجه قول من أجاز شهادتهم ، أنه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام ، أشبه الاختلاف في الفروع ، ولأن فسقهم لا يدل على كذبهم ; لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ، ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه ، بخلاف فسق الأفعال .

                                                                                                                                            قال أبو الخطاب : ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، أن الفسق الذي يتدين به من جهة الاعتقاد لا ترد الشهادة به . وقد روي عن أحمد جواز الرواية عن القدري ، إذا لم يكن داعية ، فكذلك الشهادة . ولنا ، أنه أحد نوعي الفسق ، فترد به الشهادة ، كالنوع الآخر ; ولأن المبتدع فاسق ، فترد شهادته ، للآية والمعنى . الشرط الخامس ، أن يكون متيقظا حافظا لا يشهد به ، فإن كان مغفلا ، أو معروفا بكثرة الغلط ، لم تقبل شهادته [ ص: 169 ]

                                                                                                                                            الشرط السادس ، أن يكون ذا مروءة . الشرط السابع ، انتفاء الموانع . وسنشرح هذه الشروط في مواضعها ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية