الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل فذكره ولم يقل بهم وقال فقالوا موضع فيقولون .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثالث)

                                                            عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يرجع الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون [ ص: 305 ] وأتيناهم وهم يصلون ، وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الملائكة يتعاقبون فيكم الحديث .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) التعاقب هو أن يأتي هذا في عقب هذا وهذا في عقب هذا على باب المفاعلة وقوله يتعاقبون جاء على لغة بني الحارث وهي أنهم يلحقون علامة الفاعل للجمع والتثنية مع تقدم الفعل وهم القائلون أكلوني البراغيث وهي لغة معروفة وعليها حمل الأخفش قوله تعالى وأسروا النجوى الذين ظلموا ولم يحمل بعضهم الآية الكريمة على هذه اللغة ، بل جعل الضمير في قوله وأسروا عائدا إلى الناس المتقدم ذكرهم وجعل الذين ظلموا بدلا من الضمير فيكون هذا بدل البعض من الكل ، والظاهر أن الحديث أسقط منه بعض الرواة ذكر الملائكة في أول الحديث فقد ثبت في صحيح مسلم زيادتها الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وهذا واضح وأبعد الشيخ أثير الدين أبو حيان النجعة فنسب هذه الرواية إلى مسند البزار وهي ثابتة في صحيح مسلم كما ذكرنا والله أعلم .

                                                            (الثانية) اختلف العلماء في المراد بهؤلاء الملائكة هل هم الحفظة أو غيرهم ؟ فحكى صاحب المفهم عن الجمهور أنهم الحفظة وقال : إن الأظهر عنده أنهم غير الحفظة وما ذكر أنه الأظهر هو الذي لا يتجه غيره ؛ لأنه لم ينقل أن حفظة الليل غير حفظة النهار وهذا الحديث لا يدل لما حكاه عن الجمهور .

                                                            (الثالثة) بنى صاحب المفهم على هذا الخلاف ما هو المعنى المقصود في سؤال الملائكة فإن كانوا هم الحفظة فسؤاله لهم عن كتابة أعمالهم وحفظها عليهم ، وإن كانوا غيرهم فسؤاله لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال أتجعل فيها وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون قال أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم لهم ؛ ولذلك قالوا : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون .

                                                            (الرابعة) فيه فضيلة صلاة العصر والصبح باجتماع الملائكة فيهما وهما المراد بقوله تعالى وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها كما قاله جرير بن عبد الله حين روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني العصر والفجر ، ثم قرأ جرير الآية أخرجه الأئمة الستة وفي صحيح مسلم من حديث عمارة بن رؤيبة سمعت رسول [ ص: 306 ] الله صلى الله عليه وسلم يقول : لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني الفجر والعصر .

                                                            وفي الصحيحين من حديث أبي موسى من صلى البردين دخل الجنة .



                                                            (الخامسة) قوله ثم يعرج الذين باتوا فيكم ولم يذكر عروج الملائكة الذين كانوا بالنهار ولا أن الله تعالى يسألهم كيف تركتم عبادي كما يسأل ملائكة الليل فهل يظهر لذلك معنى أم لا ؟ والجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                            (أحدها) أن الليل محل اختفاء واستتار عن الأعين وإغلاق الناس أبوابهم على ما يبيتون عليه فكان سؤال ملائكة الليل أبلغ في أنهم لم يروا إلا خيرا من مجيئهم إليهم وهم يصلون وتركهم وهم يصلون بخلاف النهار ، فإنه محل الانتشار والإظهار وإن أمكن الاختفاء فيه والإظهار في الليل ولكن جرى ذلك على غالب الأحوال .

                                                            (والوجه الثاني) أن ملائكة الليل إذا صلوا معهم الصبح عرجوا فحسن سؤالهم ليجيبوا بما فارقوهم عليه وملائكة النهار قد لا يعرجون بعد الصلاة بل يستكملون في الأرض بقية النهار ؛ لأنهم يضبطون ما وقع في جميع النهار بناء على القول بأنهم الحفظة وعلى تقدير كونهم غير الحفظة فقد أخبر أنهم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار والظاهر منهم استيعاب النهار وإذا لم يفارقوا بني آدم عقب الصلاة أمكن أن يطرأ بعد الصلاة ما لا يريد الله تعالى منهم الإخبار به وهو أعلم أو ما لا يريدون هم أن يشهدوا به فلم يسألهم عن ذلك .

                                                            (والوجه الثالث) أنه يحتمل أن يكون إنما تعرج ملائكة الليل فقط ، وأنهم الذين يعرجون وينزلون وأن ملائكة النهار هم الحفظة لا يفارقون بني آدم ويقوي هذا الثالث أنه لم ينقل لنا عروج ملائكة النهار ، وفيه موافقة الجمهور في أن المراد الحفظة فيحمل على أن الحفظة ملائكة النهار وأنهم مقيمون مع بني آدم وأن ملائكة الليل غير الحفظة ينزلون من العصر إلى صلاة الصبح ولا يضر في ذلك قوله يتعاقبون إذ التعاقب يقتضي الاشتراك فقد يرد التفاعل على غير بابه كقولهم طارقت النعل والله أعلم .

                                                            وقد اقتصر الشيخان في بعض طرقه على اجتماع الملائكة في الصبح فقال ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ، ثم يقول أبو هريرة فاقرءوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهودا .



                                                            (السادسة) فيه بيان [ ص: 307 ] لطف الله تعالى بعباده وإظهار جميل أفعالهم وستر قبيحها إذ جعل اجتماع الملائكة مع بني آدم في حالة عبادتهم ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم على شهواتهم فله الحمد على توفيقه للخير وإظهاره والإثابة عليه وعلى ستره للقبيح ومحبة ستره وكراهة إشاعته حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لهزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك .




                                                            الخدمات العلمية