الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      كلام الله الذي في كتابه عين كلامه ليس بمخلوق .


      والقول في كتابه المفصل بأنه كلامه المنزل     على الرسول المصطفى خير الورى
      ليس بمخلوق ولا بمفترى



      ( والقول ) الذي نعتقد وندين الله به ( في ) شأن ( كتابه المفصل ) بسكون اللام للروي ، وهو القرآن ، وصفه الله - تعالى - بذلك فقال : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ، ( هود : 1 ) ، وقال تعالى : ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ) ، ( فصلت : 3 ) ، وقال تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي نزل إليكم الكتاب مفصلا ) ، ( الأنعام : 114 ) ، وغير ذلك من الآيات ( بأنه كلامه ) حقيقة ، حروفه ومعانيه ، ليس كلامه الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، قال الله [ ص: 259 ] تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، ( التوبة : 6 ) ، وقال تعالى : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) ، ( الفتح : 15 ) .

      وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لا ترجعون إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه . يعني القرآن . رواه أبو داود ، والحاكم وصححه . وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الرب تبارك وتعالى : من شغله القرآن عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام ، كفضل الله على خلقه . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب . وروى ابن خزيمة ، عن نيار بن مكرم [ ص: 260 ] الأسلمي ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - قال : لما نزلت ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) . . . إلى آخر الآيتين ، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) ، ( الروم : 1 - 2 ) ، فقال رؤساء مشركي مكة : يا ابن أبي قحافة ، هذا مما أتى به صاحبك ؟ قال : لا والله ، لكنه كلام الله وقوله . وذكر الحديث .

      وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقبل المصحف ، ويقول : كلام ربي ، كلام ربي . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : إن هذا القرآن كلام الله ، فضعوه على مواضعه . وقال خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقرب إلى الله ما استطعت ، فإنك لن تقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه .

      وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : القرآن كلام الله ، فمن رد منه شيئا ، فإنما يرد على الله . وعنه - رضي الله عنه - قال : إن أحسن الكلام كلام الله .

      ويروى ذلك عنه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صحيح في الصحيح . وقال [ ص: 261 ] عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة ولا أنظر في كلام الله . يعني القراءة في المصحف . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله ، فليعرض نفسه على القرآن ، فإن أحب القرآن ، فهو يحب الله ، فإنما القرآن كلام الله . فهذه النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن القرآن كلام الله ، تكلم به حقيقة ، وأنه هو الذي قال تبارك وتعالى : ( الم ، المص ، الر ، المر ، كهيعص ، طه ، طس ، طسم ، حم عسق ) ، وليس كلام الله المعاني دون الحروف ، ولا الحروف دون المعاني ، بل حروفه ومعانيه عين كلام الله .

      ( المنزل ) من عند الله - عز وجل - ( على الرسول المصطفى خير الورى ) محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تبارك تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) ، ( البقرة : 136 ) ، وقال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) ، ( آل عمران 7 ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ، ( النساء : 105 ) ، وقال تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) ، ( النساء : 60 ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) [ ص: 262 ] ، ( النساء : 136 ) ، وقال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) ، ( البقرة : 285 ) ، وقال تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ) ، ( البقرة : 97 ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) ، ( النساء : 47 ) الآية ، وقال تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) ، ( آل عمران 199 ) الآية ، وقال تعالى : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) ، ( النساء : 166 ) ، وقال تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) ، ( النساء : 166 ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) ، ( النساء : 174 ) ، وقال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) ، ( البقرة : 231 ) ، وقال تعالى : ( وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) ، ( المائدة : 48 ) ، وقال تعالى : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ) ، ( المائدة : 48 ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ، ( المائدة : 59 ) ، وقال تعالى : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها ) ، ( الأنعام : 92 ) ، وقال تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فالذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ) ، ( الأنعام : 114 ) ، وقال تعالى : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ) ، ( الأنعام : 155 ) ، وقال تعالى : ( المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) ، [ ص: 263 ] ( الأعراف : 1 - 2 ) ، وقال تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ، ( البقرة : 23 ) ، وقال تعالى : ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم ) ، ( التوبة : 86 ) ، وقال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ) ، ( التوبة : 124 ) ، وقال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا ) ، ( التوبة : 127 ) ، وقال تعالى : ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) ، ( هود : 14 ) ، وقال تعالى : ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ، ( إبراهيم : 1 ) ، وقال تعالى : ( الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) ، ( يوسف : 2 ) ، وقال تعالى : ( المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) ، ( الرعد : 1 ) ، وقال تعالى : ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) ، ( الرعد : 37 ) ، وقال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ، ( الحجر : 9 ) ، وقال تعالى : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) ، ( النحل : 2 ) ، وقال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ، ( النحل : 89 ) ، وقال تعالى : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) ، ( النحل : 64 ) ، وقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، ( النحل : 44 ) ، وقال تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ) ، ( النحل : 101 - 102 ) ، وقال تعالى : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) ، ( الإسراء : 105 ) ، وقال تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) ، ( الكهف : 1 ) ، وقال تعالى : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ) [ ص: 264 ] ، ( الأنبياء : 10 ) ، وقال تعالى : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ) ، ( الأنبياء : 50 ) ، وقال تعالى : ( وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ) ، ( الحج : 16 ) ، وقال تعالى : ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد ) ، ( طه : 113 ) ، وقال تعالى : ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين الله ) ، ( النور : 34 ) ، وقال تعالى : ( لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، ( النور : 46 ) ، وقال تعالى : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) ، ( الفرقان : 1 ) ، وقال تعالى : ( قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) ، ( الفرقان : 6 ) ، وقال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) ، ( الشعراء : 192 ) الآيات ، وقال تعالى : ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) ، ( النمل : 6 ) ، وقال تعالى : ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) ، ( القصص : 1 - 3 ) ، وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) ، ( لقمان : 21 ) ، وقال تعالى : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك ) ، ( السجدة : 1 ) ، وقال تعالى : ( واتبع ما يوحى إليك من ربك ) ، ( الأحزاب : 2 ) ، وقال تعالى : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) ، ( سبأ : 6 ) ، وقال تعالى : ( تنزيل العزيز الرحيم ) ، ( يس : 5 ) ، وقال تعالى : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) ، ( الجاثية : 2 ) ، ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) ، ( النساء : 105 ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ) ، ( الزمر : 41 ) ، وقال تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) ، ( الزمر : 55 ) ، وقال تعالى : ( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ) ، ( غافر : 1 - 2 ) ، وقال تعالى : ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) ، ( فصلت : 1 - 2 ) ، وقال تعالى : ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ، [ ص: 265 ] ( فصلت : 41 - 42 ) ، وقال تعالى : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ) ، ( الأنعام : 155 ) ، وقال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) ، ( ص : 29 ) ، وقال تعالى : ( حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) ، ( الدخان 1 - 3 ) ، وقال تعالى : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) ، ( الزمر : 1 - 2 ) ، وقال تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) ، ( الواقعة : 75 - 80 ) ، وقال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ، ( الحديد : 25 ) ، وقال تعالى : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ) ، ( الحديد : 9 ) ، وقال تعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) ، ( التغابن : 8 ) ، وقال تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ) ، ( القلم : 51 - 52 ) ، وقال تعالى : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ) ، ( الحاقة : 38 - 43 ) ، وقوله - تعالى - في هذه الآية : ( إنه لقول رسول كريم ) ، يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفي سورة التكوير يعني به جبريل ، ومعنى الإضافة في كلا الآيتين إنما هو التبليغ ; لأن من حق الرسول أن يبلغ عن المرسل ، لا أن القرآن كلام الرسول الملكي ولا البشري ، كما بين - تعالى - ذلك بقوله : ( تنزيل من رب العالمين ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، ( القدر : 1 ) ، وقال تعالى : ( الرحمن علم القرآن ) ، ( الرحمن : 1 - 2 ) ، وقال تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) ، ( يوسف : 3 ) ، وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) ، ( الشورى : 52 ) ، والآيات في هذا الباب كثيرة جدا ، بل القرآن كله فاتحته إلى خاتمته يشهد بأنه كلام الله وتنزيله ، وقصصه وتعليمه ، وألفاظه ومعانيه ، وإيجازه وإعجازه ، يرشد إلى أنه كلام الخالق - عز وجل - وصفته ، [ ص: 266 ] وأنه لا يستطيع البشر الإتيان بسورة من مثله ، وقد أقر بذلك كل عاقل حتى المشركون ، كما قال أكفر قريش الوليد بن المغيرة لما قرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، فرجع إلى قومه ، فقال أبو جهل : قل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، قال : وماذا أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : قف حتى أفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : ( ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ) ، ( المدثر : 11 - 12 ) الآيات ، رواه البيهقي وغيره .

      ويروى عن عتبة حين قرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حم السجدة نحو ذلك ، وكذا أبو جهل ، قبحهم الله .

      فتبين بهذا أن قولهم فيه : سحر ، شعر ، كهانة ، وغير ذلك من مفترياتهم ، إنما قالوه عنادا ومكابرة ، وإلا فقد استيقنوا أنه لا يدخل تحت طوق أحد من البشر ، ونحن وجميع أهل السنة والجماعة نشهد الله الذي أنزله بعلمه وشهد به ، ونشهد ملائكته الذين شهدوا بذلك ، ونشهد رسوله الذي أنزل عليه وبلغه إلى الأمة ، ونشهد جميع المؤمنين الذين صدقوه وآمنوا به ، أنا مؤمنون مصدقون شاهدون بأنه كلام الله - عز وجل - وتنزيله ، وأنه تكلم به قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، ولا نقول إنه حكاية عن كلام الله - عز وجل - أو عبارة ، بل هو عين كلام الله ، حروفه ومعانيه ، نزل به من عنده الروح الأمين ، على محمد خاتم المرسلين ، [ ص: 267 ] وكل منهما مبلغ عن الله عز وجل ، والكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا ، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ، قال الله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ، ( المائدة : 67 ) ، وقال تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) ، ( التغابن : 12 ) ، وقال تعالى : ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) ، ( النور : 54 ) ، وقال تعالى : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ) ، ( الشورى : 48 ) ، وقال تعالى : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ) ، ( الجن : 23 ) ، والآيات في هذا كثيرة جدا ، يخبر - تعالى - عن رسوله أنه مبلغ عنه ، مؤد لما أرسله به ، وهذا يعرفه كل أحد يعقل لفظة رسول ، فإن الرسول لا بد له من مرسل برسالاته ، فالمرسل الله عز وجل ، والرسالة هي القرآن ، والمرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - المبلغ رسالة ربه ، وقال أنس : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خاله حراما إلى قومه ، وقال : أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فجعل يحدثهم . وقال المغيرة رضي الله عنه : أخبرنا نبينا ، عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة . وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : من حدثك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من الوحي ، فلا تصدقه ، إن الله - تعالى - يقول : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) . وفي خطبته في موقف الحج الأكبر ، قال صلى الله عليه وسلم : وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . وفيها إشارته بيده إلى السماء قائلا : اللهم [ ص: 268 ] هل بلغت ؟ اللهم اشهد . قالها مرارا .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك . متفق عليه .

      وكان - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل في المواسم ، ويقول : إني رسول الله ، وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي . وغير ذلك من الأحاديث يخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه مخبر عن الله ، ومبلغ رسالته ، وأن ما أمر به ونهى عنه ، وأخبر به ، هو تبليغ لأمر الله ونهيه وخبره ، وأنه لم يقل شيئا من عند نفسه ، فيقول هو من عند الله ، ومن اعتقد ذلك ، فهو كافر من حزب أبي جهل والوليد بن المغيرة وملئهم ، قال الله عز وجل : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ) ، ( الحاقة 44 - 52 ) .

      [ ص: 269 ] ( ليس بمخلوق ) كما يقول الزنادقة من الحلولية والاتحادية والجهمية والمعتزلة وغيرهم ، تعالى الله - عز وجل - عن أن يكون شيئا من صفاته مخلوقا ، قال الله عز وجل : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) ، ( الشورى : 52 ) ، وقال تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) ، ( الأعراف : 54 ) ، وقال تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ، ( يس : 83 ) ، فأخبر - تعالى - أن الخلق غير الأمر ، وأن القرآن من أمره لا من خلقه ، وقال : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، ( النحل : 40 ) ، فكن من كلامه الذي هو صفته ليس بمخلوق ، والشيء المراد المقول له " كن " مخلوق ، وقال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) ، ( آل عمران : 9 ) ، فعيسى وآدم مخلوقان بكن ، وكن قول الله صفة من صفاته ، وليس الشيء المخلوق هو كن ، ولكنه كان بقول الله له كن .

      وقد انعقد إجماع سلف الأمة الذين قضوا بالحق ، وبه كانوا يعدلون على تكفير من قال بخلق القرآن ، وذلك لأنه لا يخلو قوله من إحدى ثلاث : إما أن يقول : إنه خلقه في ذاته ، أو في غيره ، أو منفصلا مستقلا ، وكل الثلاث كفر صريح ; لأنه إن قال خلقه في ذاته ، فقد جعل ذاته محلا للمخلوقات ، وإن قال إنه خلقه في غيره ، فهو كلام ذلك الغير ، فيكون القرآن على هذا كلام كل تال له ، وهذا قول الوليد بن المغيرة فيما حكى الله عنه ، حيث قال تعالى : ( إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر ) ، ( المدثر : 18 - 29 ) الآيات ، وإن قال إنه خلقه منفصلا مستقلا ، فهذا جحود لوجوده مطلقا ، إذ لا يعقل ولا يتصور كلام يقوم بذاته بدون متكلم ، كما لا يعقل سمع بدون سميع ، ولا بصر بدون بصير ، ولا علم بدون عالم ، ولا إرادة بدون مريد ، ولا حياة بدون حي ، إلى غير ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، فهذه الثلاث لا خروج لزنديق منها ، ولا جواب له عنها ، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ، وقطع دابر القوم [ ص: 270 ] الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية