الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الوثنية وادعاء البنوة لله

                                                          وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

                                                          بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته في خلق الأشياء وتوالده وإثبات قدرته القاهرة، وإرادته العلية، وأنها تقتضي الإيمان بالله تعالى منشئ هذا الكون وما فيه ومن فيه، وأنه الحي القيوم القائم عليه يمسكه، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا لا يمسكهما أحد من بعده.

                                                          [ ص: 2610 ] مع هذه البينات ظهر أولئك الذين يشركون بالله تعالى وذكر سبحانه وتعالى أنهم يشركون الجن، فقال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم

                                                          ومعنى قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن أي: أن الشركاء هم الجن، أي: أنهم عبدوا الجن بجوار عبادة الله تعالى، وقد يسأل سائل: إن المشركين قد عبدوا الأصنام، ولم يعبدوا الجن، فكيف يقال: إن الشركاء لله الجن، وقد قال في محكم آياته: إنهم اتخذوا الأنداد، والأنداد التي حسبوها أندادا لله هي الأصنام.

                                                          وقد اتجه المفسرون في إجابة هذا السؤال اتجاهين: أولهما: أن الشياطين، وهم من أتباع إبليس وهو رأس الجن هم الذين سولوا لهم عبادة الأوثان، وزينوها لهم، وقد جاءت بذلك النصوص القرآنية الكثيرة، من ذلك قوله تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم

                                                          ويقول الله تعالى على لسان الملائكة: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون

                                                          ويقول تعالى: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا وإنه ما من شرك إلا والشيطان وراءه، والشيطان من الجن; إذ هو تابع لإبليس، وهو من الجن، كما قال تعالى: إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه هذا هو قول الأكثرين.

                                                          الاتجاه الثاني: روي عن ابن عباس والكلبي أنهما قالا: إن الذين كانوا يعبدون الجن هم الثنوية من المجوس الذين كانوا يقولون: إن الوجود يحكمه إلاهان إله الخير، واسمه يزدان وإله الشر واسمه أهرمن، [ ص: 2611 ] ولقد قال ابن عباس: إن موضوع الآية الزنادقة، وقد رجح فخر الدين الرازي ذلك الرأي، ولنترك الكلمة له، فقد قال: (هذا مذهب المجوس، وإنما قال ابن عباس: هذا قول الزنادقة؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله سمي بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي، ثم عرب فقيل: زنديق، ثم جمع فقيل: زنادقة، واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات، فهو من يزدان، وكل ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وأهرمن، هو إبليس بلغة القرآن، والقرآن قال: إنه من الجن، فمن قال بهذا المذهب، فهو يعتبر إبليس وذريته من الجن شركاء لله تعالى في معنى الألوهية، وبذلك تتحقق شركة الجن).

                                                          وفي الحق: إن الآية تشمل بعمومها عباد الأوثان والزنادقة؛ لأن كليهما عبدا الشيطان، وإبراهيم -عليه السلام- عندما نهى أباه عن عبادة الأوثان قال له: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا وعلى ذلك يكون المشركون والمجوس قد أشركوا الجن في عبادة الله تعالى، سواء أكان ذلك بأن سولوا لهم عبادة الأحجار، فتكون عبادة الأحجار عبادة للجن، أم عبدوا الجن مباشرة كالثنوية.

                                                          ولقد قال تعالى بعد أن ذكر هذه الشركة الوثنية قال تعالى: وخلقهم أي: أن الله تعالى خلقهم، فهم مخلوقون، حادثون ولا يصلحون أن يكونوا معبودين؛ لأن المعبود بحق هو القديم الذي لا أول له، والباقي الذي لا آخر له، ولأنه ليس من العقل في شيء أن يشترك الخالق مع المخلوق.

                                                          ثم ذكر سبحانه وتعالى افتراءات المشركين ومن لف لفهم، فقال تعالى:

                                                          وخرقوا له بنين وبنات بغير علم وخرقوا معناها اختلقوا القول، وافتعلوا، كان الرجل إذا كذب في النادي، قالوا: خرق ورب الكعبة؛ أي اختلق، فالمعنى: اختلقوا أن يكون لله بنون أو بنات، ومن الناس من قال: الملائكة بنات الله، وقد تردد ذلك على ألسنة المشركين وعلى ألسنة اليهود.

                                                          [ ص: 2612 ] ومن الذين خرقوا القول بأن لله تعالى بنين الهنود والبوذيون، وأخذ عنهم النصارى بنوة عيسى، واليهود قالوا: عزير ابن الله، فادعاء البنوة لله تعالى قد أخذ به اليهود، ثم سار وراءهم اليهود والنصارى، وكل من افترى على الله تعالى ذلك الافتراء.

                                                          ولقد قال تعالى إن ذلك قول ليس له أصل قام عليه، ولكنه جهالة، فقال تعالت كلماته: بغير علم أي: أنه ادعاء ليس له أساس، من أين أوتوه. بل عن أوهام توهموها، وجهل مبين بمعاني الألوهية، ويدل على فساد فكر وضلال فهم، واستهواء نفس ممن سيطر على نفوسهم. والله تعالى منزه عن ذلك.

                                                          وختم الله تعالى الآية بما يدل على التنزيه، وعلو المقام الإلهي عن ذلك فقال تعالى: سبحانه وهي مصدر يدل على التسبيح وتنزيه الله العلي الكريم عن ذلك وتعالى أي: تسامى سبحانه وتعالى عما يشركون.

                                                          ولقد بين سبحانه وتعالى استحالة أن يكون له ولد، فقال تباركت آياته:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية