الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1202 [ ص: 13 ] حديث سادس وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وانتفل من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالمرأة .

التالي السابق


هكذا قال : وانتفل من ولدها وأكثرهم يقولون ، وانتفى من ولدها والمعنى واحد ، وربما لم يذكر بعضهم فيه انتفى ، ولا انتفل ، واقتصر على الفرقة بين المتلاعنين وإلحاق الولد بأمه ، فهذه فائدة حديث ابن عمر هذا .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق الرازي ، وأبو أحمد الحسين بن جعفر الزيات قالا : حدثنا يوسف [ ص: 14 ] بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين وألحق الولد بأمه ، وقد قال قوم في هذا الحديث عن مالك : إن الرجل قذف امرأته وليس هذا في الموطأ ، ولا يعرف من مذهبه .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا إبراهيم بن راشد ، حدثنا ( أبو ) عاصم بن مهجع خال مسدد ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا انتفى من ولده وقذف امرأته ، فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بأمه ، وحدثنا خلف ، حدثنا محمد بن عبد الله القاضي ، حدثنا البغوي ، حدثنا جدي ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة والحسن بن سوار قالا : حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا انتفى من ولده وقذف امرأته ، فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بأمه .

[ ص: 15 ] وأما قوله : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، فهو - عندي - محفوظ من حديث ابن عمر صحيح .

وقال ابن عيينة : عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين ، وأنكروه على ابن عيينة في حديث ابن شهاب ، عن سهل ، وقد ذكرنا ذلك في باب ابن شهاب ، عن سهل بن سعد من كتابنا هذا ، وقد كان ابن معين يقول في ذلك : ما حدثنا به عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : سئل يحيى بن معين ، عن حديث ابن عيينة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما فقال أخطأ ليس النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما هكذا ذكره ابن أبي في التاريخ ، عن ابن معين ، فإن صح هذا ، ولم يكن فيه وهم فالوجه فيه أن يحمل كلام ابن معين على أن ليس النبي - عليه السلام - فرق بينهما من حديث ابن شهاب ، عن سهل بن سعد .

وأما ظاهر كلام ابن معين ، فإنه يوجب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين المتلاعنين ، وهذا خطأ من ابن [ ص: 16 ] معين إن كان أراده ، لأنه قد صح عن ابن عمر من حديث مالك ، وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين ، وقد يحتمل أن يكون أراد بقوله : ليس النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما ، أي أن اللعان فرق بينهما ، فإن كان أراد هذا ، فهو مذهب مالك وأكثر أهل العلم ، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب ابن شهاب ، عن سهل بن سعد من كتابنا هذا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن شاذان ، قال : حدثني معلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري سمع سهل بن سعد يقول شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنت ابن خمس عشرة سنة فرق بين المتلاعنين .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ووهب بن بيان وأحمد بن عمرو بن السرح وعمرو بن عثمان قالوا : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، قال مسدد : ( قال ) : شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا ابن خمس عشرة سنة ففرق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 17 ] وقال آخرون : إنه شهد النبي - عليه السلام - فرق بين المتلاعنين فقال الرجل : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، وبعضهم لم يقل عليها .

قال أبو داود : ولم يتابع أحد ابن عيينة على قوله : إنه فرق بين المتلاعنين .

قال أبو عمر : معنى قول أبي داود هذا - عندي - أنه لم يتابعه أحد على ذلك في حديث ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، لأن ذلك محفوظ في حديث ابن عمر من وجوه ثابتة وأظن ابن عيينة اختلط عليه لفظ حديثه ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد بلفظ حديثه ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا إسماعيل يعني ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عمر : رجل قذف امرأته فقال : فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان وقال : الله يعلم [ ص: 18 ] أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ يرددها ثلاث مرات فأبيا ففرق بينهما .

قال : وحدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : سمع عمرو بن سعيد بن جبير ، سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين : حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها فقال يا رسول الله ، مالي ، قال : لا مال لك إن كنت صدقت عليها ، فهو بما استحللته من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها ، فهو أبعد لك .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن شاذان ، قال : حدثنا معلى ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن أبي سليمان يعني عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عمر : أرأيت المتلاعنين أيفرق بينهما ؟ فقال سبحان الله ! نعم كان أول من سأل عن هذا فلان فسكت عنه النبي - عليه السلام - ، ثم جاء فقال : أرأيتك الذي سألت عنه فقد ابتليت به ، فنزلت [ ص: 19 ] عليه الآيات في سورة النور ، فتلاها عليه ووعظه ، وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كذبت ، ثم دعا المرأة ، فقال لها مثل ذلك ، فقالت : والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ، فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم دعا بالمرأة ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فرق بينهما .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : سئلت عن المتلاعنين زمن مصعب بن الزبير ، فلم أدر ما أقول ، وأتيت ابن عمر فقلت أرأيت المتلاعنين أيفرق بينهما ؟ ، فذكر مثله سواء إلى آخره . فهذا عن ابن عمر من وجوه صحاح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين كما روى مالك ، وهذا يدلك على أنه إنما أنكر على ابن عيينة ذلك في حديث سهل بن سعد - عندي - - والله أعلم - .

[ ص: 20 ] وقد زعم قوم أن مالكا أيضا انفرد في حديثه هذا بقوله فيه : وألحق الولد بالمرأة ، أو ألحق الولد بأمه قالوا : وهذا لا يقوله مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر .

قال أبو عمر : حديث نافع ، عن ابن عمر في هذا الباب رواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجل وامرأته وفرق بينهما .

وهكذا رواه كل من رواه عن نافع ذكروا فيه اللعان والفرقة ، ولم يذكروا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحق الولد بالمرأة وقاله مالك ، عن نافع كما رأيت وحسبك بمالك حفظا وإتقانا ، وقد قال جماعة من أئمة أهل الحديث : إن مالكا أثبت في نافع ، وابن شهاب من غيره .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن شاذان ، قال : حدثنا معلى ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجل وامرأته انتفى من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بأمه هكذا قال بأمه .

[ ص: 21 ] وفي الموطأ : وألحق الولد بالمرأة وذلك كله سواء ، وهذه اللفظة : وألحق الولد بأمه ، أو بالمرأة التي زعموا أن مالكا انفرد بها ، وهي محفوظة أيضا من وجوه منها : أن ابن وهب ذكر في موطئه ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد الساعدي ، قال : حضرت لعانهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة وساق الحديث . قال : وفيه ، ثم خرجت حاملا فكان الولد لأمه .

وذكر الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد الساعدي في هذا الخبر خبر المتلاعنين وقال فيه فكان الولد يدعى لأمه .

وذكر أبو داود الحديثين جميعا ، ذكر حديث ابن وهب ، عن أحمد بن صالح ، عن ابن وهب ، وذكر حديث الفريابي ، عن محمود بن خالد ، عن الفريابي وحسبك بحديث مالك في ذلك .

[ ص: 22 ] ومالك مالك في إتقانه وحفظه وتوقيه ، وانتقائه لما يرويه ، فإن قيل ما معنى قوله : وألحق الولد بأمه ومعلوم أنه قد لحق بأمه ، وأنها على كل أمه ؟ قيل له : المعنى أنه ألحقه بأمه دون أبيه ونفاه عن أبيه بلعانه وصيره إلى أمه وحدها ، ولهذا ما اختلف العلماء في ميراثه فجعل بعضهم عصبته عصبة أمه ، وجعل بعضهم أمه عصبته وسنذكر اختلافهم في ذلك في آخر هذا الباب - إن شاء الله - .

وأما تفريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين فذلك - عندنا - إعلام منه - صلى الله عليه وسلم - أن التلاعن يوجب الفرقة والتباعد فأعلمهما بذلك وفرق بينهما ، وقال لا سبيل لك عليها ، وهذا على الإطلاق على ما قد بينا فيما سلف من كتابنا في باب ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، وقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ وأخبر أن الخامسة موجبة يعني أنها توجب لعنة الله وغضبه ، ( فلما جهل الملعون منهما ، وصح أن أحدهما قد لحقته لعنة الله وغضبه ) فرق - والله [ ص: 23 ] أعلم - بينهما ، لئلا يجتمع رجل ملعون وامرأة غير ملعونة ولسنا نعرف أن المرأة أفردت باللعنة فنقيسها على اليهودية الجائز نكاحها ، ولا بأس أن يكون الأسفل ملعونا كما أنه لا بأس أن يكون كافرا ، ولا سبيل إلى معرفة من حقت عليه اللعنة منهما ، فمن هاهنا وقعت الفرقة ، ولو أيقنا أن اللعنة حقت على المرأة بكذبها لم نفرق بينهما . هذا جملة ما اعتل به بعض أصحابنا وفي ذلك نظر والتلاعن يقتضي التباعد وعليه جمهور السلف .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لا سبيل لك عليها كفاية ودلالة صحيحة على أن اللعان هو الموجب للفرقة بينهما ، وأن الحاكم إنما ينفذ الواجب في ذلك من حكم الله تعالى ذكره ، ولم يكن تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين بعد اللعان استئناف حكم ، وإنما كان تنفيذا لما أوجبه الله تعالى باللعان بينهما ، فالواجب على سائر الحكام تنفيذ الحكم بذلك ، والتفريق بينهما ، فإن فعل فقد فعل ما يجب ، وإن ترك كان الحكم بالفرقة بينهما نافذا على حسبما ذكرنا ، واحتج أصحاب أبي حنيفة لقوله : إذا التعنا فرق الحاكم بينهما بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فرق بين [ ص: 24 ] المتلاعنين قالوا : فدل على أنه الفاعل للفرقة قالوا : وهي فرقة تفتقر إلى حضور الحاكم فوجب أن يفتقر إلى تفريقه قياسا على فرقة العنين ، ومن حجة مالك ، ومن قال : بقوله : إن التفاسخ في التبايع لما وقع بتمام التحالف فكذلك اللعان .

وأما الشافعي ، فإن الفرقة تقع عنده بالتعان الزوج وحده ، لأنه لما دفع لعانه الولد والحد وجب أن يرفع الفراش ، لأن لعان المرأة لا مدخل له في ذلك ، وإنما هو لنفي الحد عنها .

وذهب عثمان البتي أن الفرقة تقع بالطلاق بعد اللعان ، لأن العجلاني طلقها ثلاثا بعد اللعان ، وقد مضى القول أيضا في حكم فرقة المتلاعنين ، وهل يحتاج الحاكم إلى أن يفرق بينهما بعد اللعان أم لا ؟ وما في ذلك للعلماء من التنازع ، ووجه الصواب فيه - عندنا - عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن سهل بن سعد في كتابنا هذا ذكرنا هناك أيضا أحكاما صالحة من أحكام اللعان لا معنى لإعادته هاهنا ، ونذكر هاهنا حكم الحمل ، والولد ، وما ضارع ذلك بعون الله لا شريك له .

فأما قوله في حديثنا هذا : انتفى من ولدها ، فإنه يحتمل أن يكون انتفى منه ، وهو حمل ظاهر ، ويحتمل أن يكون [ ص: 25 ] انتفى منه بعد أن ولده ، وقد اختلف العلماء في الملاعنة على الحمل ، فقال منهم قائلون : لا سبيل إلى أن يلاعن أحد عن حمل ، ولا لأحد أن ينتفي من ولد لم يولد بعد ، لأنه ربما حسب أن بالمرأة حملا وليس بها حمل قالوا : وكم حمل ظهر في رأي العين ، ثم انفش واضمحل قالوا : فلا لعان على الحمل بوجه من الوجوه قالوا : ولو التعن أحد على الحمل لم ينتف عنه الولد حتى ينفيه بعد أن يولد ويلتعن بعد ذلك ، وينفيه في اللعان فحينئذ ينتفي عنه هذا قول أبي حنيفة ، وطائفة من فقهاء الكوفة .

وقال آخرون : جائز أن ينتفي الرجل من الحمل إذا كان حملا ظاهرا ، هذا قول مالك والشافعي وجماعة من فقهاء أهل الحجاز والعراق وحجتهم أن المرأة التي لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها وبين زوجها كانت حاملا ، فانتفى الملاعن من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وألحق الولد بأمه ، والآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة ، وسنذكر منها في هذا الباب ما فيه كفاية ، وشفاء وهداية - إن شاء الله - .

[ ص: 26 ] وجملة قول مالك وأصحابه في هذه المسألة أنه لا ينفي الحمل بدعوى رؤية الزنا ، ولا ينفي الحمل إلا بدعوى الاستبراء ، وأنه لم يطأ بعد الاستبراء ، والاستبراء - عندهم - حيضة كاملة ، هذا قول مالك وأصحابه إلا عبد الملك ، فإنه قال : ثلاث حيض ، ورواه أيضا عن مالك ، وقال ابن القاسم لا يلزمه ما ولدت بعد لعانه إلا أن يكون حملا ظاهرا حين لاعن بإقرار ، أو بينة فيلحق به .

وقال ( المغيرة ) المخزومي : إن أقر بالحمل وادعى رؤية لاعن ، فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية ، فهو له ، وإن كان لستة أشهر فأكثر ، فهو اللعان ، فإن ادعاه لحق به وحده ، قال المغيرة : يلاعن في الرؤية من يدعي الاستبراء .

( وإن وضعت لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية لحق به ، ولا ينفعه إن نفاه ، ولا يحد ، قال : ولو قال بعد الوضع لأقل [ ص: 27 ] من ستة أشهر كنت استبريته ونفاه ، كان للعان الأول ، قال أصبغ : لا ينتفي إلا بلعان ثان ) .

أما الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور وأصحابهم ، فإنهم يقولون كل من قذف امرأته وطلبت الحد ، ولم يأت زوجها بأربعة شهداء لاعن ، وسواء قال لها يا زانية ، أو زنيت ، أو رأيتها تزني ، يلاعن أبدا ، وكل من نفى الحمل عندهم ، وقال : ليس مني ، ولم يكن علم به لاعن ، ولا معنى عندهم للاستبراء ، لأن الاستبراء قد تلد معه ، فلا معنى له ما كان الفراش قائما إلا أبا حنيفة ، فإنه على أصله في أن لا لعان على حمل ، على ما ذكرت لك ، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أنه إذا ادعى رؤية ، وأقر أنه وطئ بعدها ، حد ولحق به الولد ، قال ابن القاسم : فلو أكذب نفسه في الاستبراء وادعى الولد لحق به وحده إذ باللعان نفيناه عنه وصار قاذفا .

وقال مالك ، وابن القاسم ، وغيرهما : يبدأ بالزوج في اللعان ، فيشهد أربع شهادات بالله ، يقول في الرؤية : أشهد بالله إني [ ص: 28 ] لمن الصادقين لرأيتها تزني ، ويقول في نفي الحمل : أشهد بالله لزنيت . وذكر ابن المواز ، عن ابن القاسم ، قال في نفي الحمل ) أشهد بالله إني لمن الصادقين ما هذا الحمل مني ، قال أصبغ : وأحب إلي أن يزيد لزنيت ، قال أصبغ : يقول في الرؤية : كالمرود في المكحلة .

قال مالك ، وابن القاسم ، ويقول في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وتقول المرأة في الرؤية : أشهد بالله ما رآني أزني ، وفي الحمل أشهد بالله ما زنيت ، وإن هذا الحمل منه .

قال أبو عمر : إن كان ولدا ، أو حملا ونفاه ، قال في لعانه : أشهد بالله لقد زنيت ، وما هذا الحمل مني ، أو ما هذا الولد مني ، وتقول هي : أشهد بالله ما زنيت ، وإن هذا الحمل منه ، أو هذا الولد منه ، وإن كان غائبا ، أو ميتا سمته ونسبته ، وقالت : وإنه من زوجي فلان بن فلان ، يقول كل واحد منهما هذا القول أربع مرات بأربع شهادات ( بالله ) ، ثم [ ص: 29 ] يقول الزوج في الخامسة ، وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين ، وتقول هي : وعليها غضب الله ، إن كان من الصادقين ، فيما ذكر من رؤية ، أو فيما ذكر من زناها ، ومن نفي حملها أو ولدها ، على حسبما فسرت لك .

فإذا تم التعان المرأة بعد التعان الرجل ، وقعت الفرقة بينهما ، ثم لم تحل له أبدا ، وسواء فرق الحاكم بينهما ، أو لم يفرق ، وإن أكذب نفسه بعد ذلك ، حد ولحق به الولد ، ولم يتراجعا أبدا ، وإن بقي من لعانه ، أو لعان المرأة ، ولو مرة واحدة شهادة واحدة : الخامسة ، أو غيرها فأكذب نفسه قبل تمامها ، حد وبقيت معه زوجته إذا لم يتم لعانها . هذا كله قول مالك وأصحابه ، ولو لاعن عندهم من نفى حملا ، فانفش ، لم ترد إليه ، ولم تحل له أبدا ، لأنه قد يجوز أن تكون أسقطته وكتمته .

وعند الشافعي أن الرجل إذا تم التعانه ، فقد زال فراشه ، ولا تحل له أبدا .

وعند أبي حنيفة أن تمام اللعان لا يوجب فرقة حتى [ ص: 30 ] يفرق الحاكم بينهما ، ولكل واحد منهم حجة من حديث مالك هذا ، وغيره محتملة التأويل ، وقول مالك أولى بالصواب - إن شاء الله - .

وقال الشافعي - رحمه الله - تفريق النبي - عليه السلام - بين المتلاعنين ، تفرق حكم ليس لطلاق الزوج فيه مدخل ، وإنما هو تفريق أوجبه اللعان ، فأخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : لا سبيل لك عليها ، قال : وإذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان ، فقد زال فراش امرأته ، ولا تحل له أبدا ، وإن أكذب نفسه التعنت ، أو لم تلتعن ، قال : وإنما قلت هذا ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا سبيل لك عليها ، ولم يقل حتى تكذب نفسك ، قال : وكان معقولا في حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه ، وأن نفيه عنه إنما كان بيمينه ، والتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه ، قال : ومعقول في إجماع المسلمين أن الزوج إذا أكذب نفسه لحق به الولد وجلد الحد ، ولا معنى للمرأة في نفيه ، وإن المعنى للزوج ، وكيف يكون لها [ ص: 31 ] معنى في يمين الزوج ، ونفي الولد وإلحاقه ، والولد بكل حال ولدها ، لا ينتفي عنها أبدا : إنما ينتفي عن الرجل وإليه ينتسب ، قال : والدليل على ذلك ما لا يختلف فيه أهل العلم من أن الأم لو قالت ليس هو منك ، إنما استعرته : لم يكن قولها شيئا إذ عرف أنها ولدته على فراشه ، ولم ينتف عنه إلا بلعان ، لأن ذلك أحق للولد دون الأم ، وكذلك لو قال : هو ابني ، وقالت هي : بل زنيت ، وهو من زنى كان ابنه ، ولم ينظر إلى قولها ، ألا ترى أن حكم النفي والإثبات إليه دون أمه فكذلك نفيه بالتعانه إليه دون أمه ، قال : والتعان المرأة إنما هو لدرء الحد عنها لا غير ليس من إثبات الولد ، ولا نفيه في شيء .

قال الشافعي : وإذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه بعد ، وقال ببغداد : إذا لم يشهد بحضرة ذلك في يوم ، أو يومين لم يكن له نفيه ، وقال بمصر أيضا ، ولو قال قائل : له نفيه في ثلاثة أيام إن كان حاضرا كان مذهبا .

[ ص: 32 ] قال أبو عمر : كل من قال إن الفرقة تقع باللعان دون تفريق الحاكم من فقهاء الأمصار خاصة ، يقولون إن الفرقة لا تقع بينهما إلا بتمام التعانهما جميعا إلا الشافعي وأصحابه ، فإنهم قالوا : تقع الفرقة بتمام التعان الزوج وحده ، وكلهم يقولون إن المرأة إذا أبت أن تلتعن بعد التعان الزوج وجب عليها الحد ، وحدها إن كانت غير مدخول بها الجلد ، وإن كانت مدخولا بها الرجم إلا أبا حنيفة وأصحابه ، فإنهم قالوا : إن أبت أن تلتعن حبست أبدا حتى تلتعن ، والحجة عليهم قول الله - عز وجل - : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله والسجن ليس بعذاب - والله أعلم - .

بدليل قول الله - عز وجل - : إلا أن يسجن أو عذاب أليم فجعل السجن غير العذاب ، وقد سمى الله الحد عذابا بقوله : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقوله : ويدرأ عنها العذاب .



[ ص: 33 ] وقد روي مثل قول أبي حنيفة في هذه المسألة عن عطاء والحارث العكلي ، وابن شبرمة ، وهو خلاف ظاهر القرآن وخلاف ما عليه أكثر علماء المسلمين .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد قراءة مني عليه أن محمد بن بكر حدثهم ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وقوله : والذين يرمون أزواجهم الآية ، قال : فإذا حلفا فرق بينهما ، وإن لم يحلفا أقيم الجلد ، أو الرجم ، وهذا كقول مالك سواء في الفرقة وإقامة الحد عند نكول المرأة ، وقال الضحاك بن مزاحم في قوله - عز وجل - : ويدرأ عنها العذاب ، قال : إن هي أبت أن تلاعن رجمت إن كانت ثيبا وجلدت إن كانت بكرا ، وهو قول أكثر أهل العلم بتأويل القرآن وأكثر فقهاء الأمصار .

والعجب من أبي حنيفة يقضي بالنكول في الحقوق بين الناس ، ولا يرى رد اليمين ، ولم يقل بالنكول هاهنا ، والذي ذهب إليه أبو حنيفة - والله أعلم - أنه حين عز إقامة الحد عليها بدعوى زوجها ويمينه دون إقرارها ، أو بينة تقوم عليها ، ولم [ ص: 34 ] يقض بالنكول ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، ومثل هذا كله شبهة درأ بها الحد عنها وحبسها حتى تلتعن ، وهذا قول ضعيف في النظر مع مخالفته الجمهور والأصول - والله المستعان - ، ومذهب مالك والشافعي أن اللعان فسخ بغير طلاق ، وقال أبو حنيفة : هي طلقة بائنة .

واتفق مالك ، والشافعي على أنه جائز أن يلاعن إذا نفى الحمل ، وكان الحمل ظاهرا على ما تقدم عن مالك وأصحابه ، وهو قول الشافعي ، وأصحابه أيضا والحجة لهم الآثار المتواترة بذلك التي لا يعارضها ، ولا يخالفها مثلها ، فمن ذلك ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، قال : أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي ، فقال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله فيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فعاب رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 35 ] وسلم - عليه المسائل ، ثم لقيه عويمر فسأله ما صنعت ؟ فقال : صنعت ! إنك لم تأت بخير ، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاب المسائل ، فقال عويمر ، والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فوجده قد أنزل عليه فيها فدعا بهما فتلاعنا ، فقال عويمر لئن انطلقت بها يا رسول الله ، لقد كذبت عليها ، قال : ففارقها قبل أن يأمره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصارت سنة في المتلاعنين ، ثم قال : انظروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة ، فلا أراه إلا كاذبا ، قال : فجاءت به على النعت المكروه .

فهذا الحديث يدل على أنها كانت حاملا ، وإذا كانت حاملا فقد وقع التلاعن على الحمل ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفاه عن الرجل وألحقه بأمه وليس في شيء من الآثار أن اللعان أعيد في ذلك مرة ثانية بعد أن ولدته وفي ذلك ما يدل على أنه نفاه حملا فنفاه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألحقه بأمه .

[ ص: 36 ] ومما يصحح أيضا ما قلناه ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إنا ليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار ، فقال لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه ، وإن قتل قتلتموه ، أو سكت سكت على غيظ ، والله لأسألن عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان من الغد أتى رسول الله فسأله ، فقال لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه ، أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ ، فقال : اللهم افتح ، وجعل يدعو ، فنزلت آية اللعان والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتلاعنا ، فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ثم الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، قال : فذهبت لتلتعن ، فقال لها النبي - عليه السلام - : مه فأبت وفعلت ، فلما أدبر ، قال : لعلها أن تجيء به أسود أجعد فجاءت به أسود أجعد .

[ ص: 37 ] قال أبو عمر : هكذا في الحديث أجعد والصواب عند أهل العربية جعد يقال رجل جعد وامرأة جعدة ، ولا يقال أجعد ، قال الأوزاعي - رحمه الله - : أعربوا الحديث ، فإن القوم كانوا عربا .

وأما الحديث الذي قيل هذا فيه إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا ، قال : فجاءت به على النعت المكروه . فالأسحم الأسود من كل شيء ، والسحمة : السواد ، والدعج شدة سواد العين يقال رجل أدعج وامرأة دعجاء وعين دعجاء وليل أدعج ، أي أسود .

وأما قوله : كأنه وحرة فأراد - والله أعلم - كأنه وزغة ، قال الخليل : والوحرة وزغة تكون في الصحاري ، قال : والمرأة وحرة سوداء ذميمة .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن المرأة كانت حبلى وفيه ضروب من الفقه ظاهرة أبينها أن القاذف [ ص: 38 ] لزوجته يجلد إن لم يلاعن ، وعلى هذا جماعة أهل العلم إلا ما قدمنا ذكره عن أبي حنيفة في هذا الباب ، وشيء روي على الشعبي والحارث العكلي قالوا : الملاعن إذا كذب نفسه لم يضرب ، وهذا قول لا وجه له والقرآن والسنة يردانه ويقضيان أن كل من يقذف امرأته ، ولم يخرج مما قاله بشهود أربعة إن كان أجنبيا ، أو بلعان إن كان زوجا جلد الحد ، ولا يصح - عندي - عن الشعبي ، وكذلك لا يصح - إن شاء الله - عن غيره .

وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، حدثنا مطرف عن عامر يعني الشعبي ، قال : إذا أكذب نفسه جلد الحد وردت إليه امرأته .

وحجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب مثله

وهشيم ، عن جرير ، عن الضحاك مثله ، قال حماد بن سليمان : يكون خاطبا من الخطاب إذا جلد ، وهو قول أبي حنيفة [ ص: 39 ] ، وأصحابه ، وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في هذه المسألة في باب ابن شهاب ، عن سهل بن سعد من هذا الكتاب ، وللناس فيها ثلاثة أقاويل أحدها أنه إذا أكذب نفسه جلد وردت إليه امرأته دون نكاح على عصمته .

والثاني أن يكون بعد الجلد خاطبا كما ذكرنا .

والثالث أنهما لا يجتمعان أبدا .

وأما قول من قال : إنه لا يجلد ، فلا يعرج عليه ، ولا يشتغل به ، وهو وهم وخطأ ، ( وقد مضى القول في هذا والحجة في باب ابن شهاب ، عن سهل بن سعد من هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادته هاهنا ) .

ومما يوضح أيضا التلاعن على الحمل البين عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني عباس بن [ ص: 40 ] سهل ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعاصم بن عدي : أمسك المرأة عندك حتى تلد . ومثله أيضا حديث ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال فيه : ثم خرجت حاملا فكان الولد إلى أمه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن الهيثم أبو الأحوص ، حدثنا محمد بن عائذ الدمشقي ، قال : حدثنا الهيثم بن حميد ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا من بني زريق قذف امرأته فأتى النبي - عليه السلام - فردد ذلك أربع مرات على النبي - عليه السلام - ، فنزلت آية الملاعنة ، فقال النبي - عليه السلام - قد نزل من الله أمر عظيم فأبى الرجل إلا أن يلاعنها فرأيت المرأة تدرأ عن نفسها العذاب ، فتلاعنا ، فقال النبي - عليه السلام - إما أن تجيء به أصيفر أحيمش مسلول العظام ، فهو للمتلاعن ، وإما أن تجيء به أسود كالجمل الأورق ، فهو لغيره ، فجاءت به أسود كالجمل الأورق ، فدعا به رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 41 ] وسلم - فجعله لعصبة أمه ، وقال : لولا الأيمان التي مضت يعني اللعان لكان فيه كذا وكذا .

قال أبو عمر : في هذا الحديث رأيت المرأة تدرأ عن نفسها العذاب ، وهو حجة على أبي حنيفة في قوله : إنها تسجن ، وقد مضى القول في ذلك وأما قوله فيه : أصيفر أحيمش فالأصيفر تصغير أصفر والأحيمش تصغير أحمش والأحمش الدقيق القوائم .

وفي حديث ابن عباس من رواية عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

وفي رواية هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

ومن رواية جرير بن حازم ، عن ، أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

ومن رواية ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن ابن عباس وسليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ومخرمة بن بكير ، عن أبيه جميعا ، عن عبد الرحمن بن [ ص: 42 ] القاسم ، عن أبيه ، عن ابن عباس ما يدل على أن الملاعنة كانت على الحمل وحديث عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في اللعان ذكر فيه كلام سعد بن عبادة وقصة تلاعن هلال بن أمية وزوجته إذ رماها بشريك بن سحماء حديثا طويلا ، حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عباد بن منصور .

وذكره أبو داود ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عباد بن منصور ، ولم يسقه بتمامه .

وفيه عند جميعهم ففرق رسول الله بينهما يعني بعد تمام التعانهما وقضى ألا يدعى ولدها لأب ، ولا ترمى هي ، ولا يرمى ولدها ، ومن رماها ، أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت عليها ، ولا قوت من أجل أنهما مفترقان من غير طلاق ، ولا هي متوفى عنها ، وقال : إن جاءت به أصيهب أثيبج أحمش الساقين ، فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا [ ص: 43 ] جماليا خدلج الساقين سابغ الإليتين ، فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الإليتين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا الأيمان لكان لي ، ولها شأن ، قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر ويدعى للأب .

قال أبو عمر : في هذا الحديث وقضى أن من رماها ، أو رمى ولدها فعليه الحد ، وهو حجة ، ومن قال بقوله : أن من قذف الملاعنة ، أو ولدها حد إن لم يأت بأربعة شهداء ، وعليه أكثر الناس ، وهذا الحديث حجة في ذلك .

وفيه أيضا أن لا بيت عليها ، ولا قوت يعني لا سكنى لها ، ولا نفقة ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء فأما مالك ، فإنه لم يذهب إلى أن السكنى لكل مطلقة وجبت لها النفقة ، أو لم تجب مختلعة كانت ، أو ملاعنة ، أو مبتوتة ، ولا نفقة عنده إلا لمن يملك رجعتها خاصة ، أو بعد تحملها فسقوطها من أجل الحمل وللمبتوتات والمختلعات كلهن عنده السكنى دون النفقة ، وهذا كله أيضا قول الشافعي لا خلاف بينهما في شيء من ذلك كله ، وذهب أبو حنيفة وجماعة من السلف إلى إيجاب النفقة لكل معتدة مبتوتة ، وغير مبتوتة مع السكنى .

[ ص: 44 ] وذهب أحمد بن حنبل ، وأبو ثور وجماعة من أهل الحديث ، وهو قول داود أيضا إلى أن لا سكنى ، ولا نفقة لمن لا رجعة عليها ، فلا سكنى عندهم للملاعنة والمختلعة ، ولا لغيرها ، ولا نفقة ) .

وهذا الحديث حجة لمن ذهب إلى هذا ، وروي عن جماعة من السلف أيضا ، وسنذكر اختلاف العلماء في إيجاب السكنى ، والنفقة للمبتوتة ، ومن جرى مجراها في باب عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان من كتابنا هذا ، ونذكر وجوه أقاويلهم ومعانيها هناك - إن شاء الله - .

وأما قوله في هذا الحديث : أصيهب ، فهو تصغير أصهب والصهبة حمرة في الشعر ، والأثيبج تصغير أثبج والأثبج العالي الظهر يقال رجل أثبج ناتئ الثبج وثبج كل شيء وسطه وأعلاه ورجل مثبج مضطرب الخلق في طول والأحمش الساقين دقيقهما والأورق الرمادي اللون ويقال الأورق للرماد أيضا ، ومنه قيل حمامة ورقاء وأصل الورق سواد في [ ص: 45 ] غيره والجمالي العظيم الخلق يقال ناقة جمالية إذا كانت في خلق الجمل ، والخدلج الضخم الساقين يقال امرأة خدلجة إذا كانت ضخمة الساق .

وهذه الآثار كلها تدل على أن المرأة الملاعنة كانت في حين التلاعن حبلى ، فلما نفاه في لعانه نفاه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألحقه بأمه .

وفي حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحق الولد بأمه ، وهو أولى ، وأصح من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله لعصبة أمه .

واختلف العلماء في ميراث ولد الملاعنة ، فقال قائلون : أمه عصبته وممن قال ذلك : عبد الله بن مسعود وجماعة ، قال ابن مسعود : أمه عصبته ، فإن لم تكن فعصبتها ، وقال آخرون : عصبته عصبة أمه ، قال ذلك جماعة وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، قال : ابن الملاعنة ترثه أمه وعصبتها .

والقائلون بهذين القولين يقولون بتوريث ذوي الأرحام ، وقال علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت : لا عصبة لابن [ ص: 46 ] الملاعنة ، وهوعندهما كمورث لم يخلف أبا ، ولا عصبة ، فإن كان له إخوة لأم ورثوا فرضهم وورثت أمه سهمها ، وما بقي فلبيت المال هذه رواية قتادة ، عن جلاس ، عن علي ، وزيد والمشهور عن علي أن عصبته عصبة أمه إلا أن مذهبه أن ذا السهم أحق ممن لا سهم له ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال ابن مسعود عصبته عصبة أمه ، وهو قول الحسن ، وابن سيرين وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والنخعي وحماد والحكم وسفيان والحسن بن صالح وشريك ويحيى بن آدم وأحمد بن حنبل وأبي عبيد إلا أنهم اختلفوا ، فمنهم من لم يجعل عصبة أمه عصبته إلا عند عدم أمه ، ومنهم من أعطاها فرضها ، وجعل الباقي لعصبتها ابنا كان لها ، أو أخا لابنها ، أو غيره من عصبتها والذين جعلوا أمه عصبته ، فإذا لم تكن فعصبتها احتجوا بحديث واثلة بن الأسقع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المرأة تحرز ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها ، وابنها الذي لاعنت عليه .

وبحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ميراث ابن الملاعنة لأمه ، ولورثتها من بعدها [ ص: 47 ] وقد أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع .

وذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما إلى قول زيد بن ثابت في ذلك ، قال مالك : إنه بلغه عن عروة بن الزبير وسليمان بن يسار أنهما سئلا عن ولد الملاعنة وولد الزنا من يرثهما ؟ فقالا : ترث أمه حقها ، وإخوته لأمه حقوقهم ويرث ما بقي من ماله موالي أمه إن كانت مولاة ، وإن كانت عربية ورثت حقها وورث إخوته لأمه حقوقهم وورث ما بقي من ماله المسلمون ، قال مالك : وذلك الأمر الذي لا اختلاف فيه - عندنا - والذي أدركت عليه أهل العلم .

قال أبو عمر : وهو قول الشافعي سواء ، ولأهل العراق والقائلين بالرد وتوريث ذوي الأرحام ضروب من التنازع في توريث عصبة أم ولد الملاعنة منه مع الأم ودونها ليس هذا موضع ذكر ذلك ، ولا خلاف بين العلماء أن الملاعن إذا أقر بالولد جلد الحد ولحق به وورثه ، وابن الزانية عند جماعة العلماء كابن الملاعنة سواء ، وكل فيه على أصله [ ص: 48 ] الذي ذكرناه عنهم ، وأجمعوا في توأمي الزانية أنهما يتوارثان على أنهما لأم ، واختلفوا في توأمي الملاعنة فذهب مالك ، والشافعي ، وهو قول أهل المدينة إلى أن توارثهما كتوارث الإخوة للأب والأم ويحتجون بأن الملاعن إذا استلحقهما جلد الحد ولحق به النسب ، وذهب الكوفيون إلى أن توأمي الملاعنة كتوأمي الزانية لا يتوارثان إلا على أنهما لأم ، وإن مات ابن الملاعنة فاستلحقه الملاعن بعد موته ، فإن مالكا وأبا حنيفة ، وأصحابهما يقولون إن خلف ولدا لحق به نسبه وورث ، وإن لم يخلف ولدا لم يرثه ويجلد الحد على كل حال .

وقال الشافعي يجلد الحد ويلحق به الولد ونسبه ويرث خلف ولدا ، أو لم يخلف ، وإن مات الملاعن بعد أن التعن وقبل أن تلتعن المرأة ، فإن التعنت بعده لم ترث ، وإن نكلت عن الالتعان حدت وورثت في قول مالك ، وقال الشافعي لا يتوارثان أبدا إذا التعن الرجل وتم التعانه ، لأن الفراش قد زال بالتعانه ، وإنما التعان المرأة لدفع الحد عنها .

[ ص: 49 ] قال أبو حنيفة : لا ينقطع التوارث بينهما أبدا حتى يفرق الحاكم بينهما فأيهما مات قبل ذلك ورثه الآخر وإليه ذهب أحمد بن حنبل ولكل واحد منهم في هذه المسائل اعتلالات يطول ذكرها ، ولو تعرضنا لها خرجنا عن شرطنا في كتابنا وبالله توفيقنا .




الخدمات العلمية