الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5246 [ ص: 639 ] 15 - باب: إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء

                                                                                                                                                                                                                              5566 - حدثنا أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق أنه أتى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين، إن رجلا يبعث بالهدي إلى الكعبة، ويجلس في المصر، فيوصي أن تقلد بدنته، فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس. قال: فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت: لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث هديه إلى الكعبة، فما يحرم عليه مما حل للرجال من أهله، حتى يرجع الناس. [انظر: 1696 - مسلم: 1321 - فتح: 10 \ 23]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أحمد بن محمد، أنا عبد الله، أنا إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق أنه أتى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، إن رجلا يبعث بالهدي إلى الكعبة، ويجلس في المصر، فيوصي أن تقلد بدنته، فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس. قال: فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت: لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث هديه إلى الكعبة، فما يحرم عليه شيء مما حل للرجل من أهله، حتى يرجع الناس.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث فيه رد على من قال: إن من بعث بهديه إلى الكعبة لزمه إذا قلده الإحرام ويجتنب ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأئمة الفتوى على خلاف هذا القول، وقد تقدم بيان الحجة لهم في ذلك في كتاب الحج. قال ابن بطال : وهذا الحديث يرد ما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 640 ] وقال بظاهر حديث أم سلمة سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق، وقال الليث: قد جاء هذا الحديث وأكثر الناس على خلافه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي: حديث عائشة أحسن مجيئا من حديث أم سلمة; لأنه جاء مجيئا متواترا، وحديث أم سلمة قد طعن في إسناده، وقيل: إنه موقوف على أم سلمة، رواه ابن وهب وعثمان بن عمر، عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة ولم يرفعه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما من طريق النظر فرأينا الإحرام يحظر أشياء مما كانت حلالا قبله منها: الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر والصيد، فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكامها مختلفة، وذلك أن الجماع يفسد الإحرام ولا يفسده ما سوى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر لا يحرم عليه الجماع وهو أغلظ ما يحرم به الإحرام، فكان أحرى أن لا يمنع ما دون ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: حديث أم سلمة أخرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعا، وقال الحاكم في "مستدركه": إنه على شرط الشيخين .

                                                                                                                                                                                                                              وذهب إليه مع من سلف: الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر، فمن دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئا. وفي رواية في مسلم: " فلا يمس من شعره وبشره شيئا" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 641 ] ونقل ابن المنذر عن مالك والشافعي أنهما لا يرخصان في أخذ الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي ما لم يحرم، غير أنهما يستحبان الوقوف عن ذلك عند دخول العشر إذا أراد أن يضحي، ورأى الشافعي أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر اختيار.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور: هو إن أراد المرء أن يضحي. ورخص فيه الزهري لغير الحاج. قال ابن حزم: روي عن أم المؤمنين أم سلمة أنها أفتت بذلك، وكذا ذكره ابن أبي عروبة، عن يحيى بن أبي كثير أن يحيى بن يعمر كان يفتي به، قال سعيد: قال قتادة: فذكرت ذلك لابن المسيب فقال نعم; فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال: عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قد أخرجه عن أم سلمة مرفوعا كما ترى أخرجه عنه مسلم في "صحيحه"، وفي آخره: قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه، قال: لكني أرفعه. قلت: ولم ينفرد بل توبع كما ستعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الدارقطني: الصحيح وقفه، وقال مسدد: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: كان ابن سيرين يكره إذا دخل العشر أن يأخذ الرجل من شعره حتى يكره أن يحلق الصبيان في العشر.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وخالف أبو حنيفة ومالك وما علمنا لهم حجة إلا أن بعضهم ذكر ما رواه مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا بالإطلاء في العشر، قالوا: وهو راوي هذا الخبر.

                                                                                                                                                                                                                              وما روينا من طريق عكرمة أنه ذكر له هذا الحديث فقال: فهلا اجتنبت النساء والطيب، وما يعلم لهم غير هذا أصلا، وهذا كله [ ص: 642 ] لا شيء، أما الرواية عن سعيد فباطلة من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أولها: أنه لا حجة في قوله; إنما الحجة في روايته.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنه قد صح عنه خلاف ذلك كما ذكرناه قبل.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: يتأول له في الإطلاء أنه بحكم سائر الشعر، وأن النهي إنما هو عن شعر الرأس فقط.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أنه يكون المراد بالعشر إنما هو عشر المحرم لا عشر ذي الحجة، وإلا فمن أين للمرء أنه أراد عشر ذي الحجة واسم العشر ينطلق عليهما.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: أن يقول: لعل سعيدا رأى ذلك لمن لا يريد أن يضحي وهذا صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول عكرمة ففاسد; لأنه إنما هو منه قياس، والقياس كله باطل، ثم لو صح القياس لكان هذا منه (عين الباطل لأنه) ليس إذا وجب ألا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك يجب أن يجتنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب لم يجب بذلك اجتناب الشعر والظفر، هذا الصائم فرض عليه اجتناب النساء ولا يلزمه اجتناب الطيب ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكفة وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار، وما ذهب إليه صحت عن فتيا الصحابة ولا نعرف فيها مخالفا لهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 643 ] قال الطحاوي: كل من روى هذا الحديث عن مالك سوى شعبة يوقفه على أم سلمة ولا يرفعه عنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وممن رواه عنه كذلك ابن وهب وعثمان بن عمر، وخالفا شعبة أيضا في شيخ مالك الذي روى عنه هذا الحديث فقالا: عمر بن مسلم، وقال شعبة: عمرو، قال ابن وهب وعثمان بن عمر: هذا مجهول .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطحاوي: ولعله أن يكون كما قالا; لأن مالكا لم يتركه إلى خلافه، وهو عنده عمرو لا سيما وقد رفعه ثم وقفنا بعد ذلك على حقيقة شيخ مالك ومن هو، وعلى ما بينا أن مالكا لم يعمل بما أخذه عنه من أجله، إذ كان ليس بمرضي عنده.

                                                                                                                                                                                                                              قال العلائي: ذكرت لابن معين حديث مالك هذا، فقال: يقولون: عمر وعمرو وعمار وهو ابن مسلم بن عبد الله بن أكيمة، وزعموا أنه كان خليفة محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، وليس هو عمرو بن مسلم (الجندعي) هذا، روى عنه معمر وابن جريج وابن عيينة، وكأن مالكا لما لم يرضه لم يدخله في "موطئه" ولم يعمل بما حدثه عنه، ووجدنا هذا الحديث من وجه آخر من حديث سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة مرفوعا، ووجدنا غير ابن عيينة رواه عن عبد الرحمن فأوقفه على أم سلمة وهو أبو ضمرة الليثي.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن عطاء بن يسار وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبا بكر بن سليمان كانوا لا يرون [ ص: 644 ] بأسا أن يأخذ الرجل من شعره ويقلم أظفاره في عشر ذي الحجة .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم من حديث شعبة عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد، عن أم سلمة مرفوعا. ومن حديث محمد بن عمرو الليثي عن عمر به مرفوعا، ومن حديث ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة مرفوعا. ومن حديث محمد بن عمرو، أنا عمرو بن مسلم قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى فاطلى فيه ناس، فقال بعض أهل الحمام: إن ابن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له، فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث معاذ عن محمد بن عمرو. ومن حديث سعيد بن أبي هلال، عن عمر بن مسلم أن ابن المسيب أخبر أن أم سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهم وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديثهم .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو الشيخ في كتابه من حديث مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يروى من حديث يزيد بن عياض بن جعدبة، عن عبد الرحمن بن حرملة ويحيى بن سعيد وعطاء بن الفارسي، عن ابن المسيب، عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. ومن حديث جنادة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به.

                                                                                                                                                                                                                              فهذه متابعات لسفيان ولو ظفر بها ابن حزم لما شرع في التأويلات المذكورة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 645 ] قال ابن عبد البر: ومما يدل على أن سعيد بن المسيب كان يقول بحديثه هذا عن أم سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره أبو بكر، ثنا وكيع، عن شعبة وهشام، عن قتادة، عن سعيد قال: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عليك، وهذا أخذ منه بحديثه عن أم سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر .. " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فسمعت تسفيقها) أي: تصفيقها وهو الضرب باليدين، يقال: ثوب سفيق وصفيق.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكر الداودي أن من أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره إذا أهل هلال ذي الحجة، قال: روته ميمونة، كذا قال، قال: وقد يكون هذا منسوخا أو ناسخا لحديث عائشة. وهو عجيب، فإن عائشة إنما أنكرت أن يكون محرما يمنع مما يمتنع منه المحرم من الطيب وغيره، ولم تتكلم على ما يستحب في العشر خاصة من اجتناب ما ذكرناه، لكن عموم الحديث يدل على ذلك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية