الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [64] قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمره تعالى بالجواب تنبيها على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم؛ إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب أي: من غير شفاعة أحد ولا عون ثم أنتم تشركون أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعدا وثيقا بالقسم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيره. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: ما قدمناه من أن ظلمات: البر والبحر مجاز عن مخاوفها وأهوالها، هو ما قاله المحققون.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعظم الخوف، وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع [ ص: 2354 ] الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى. وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله: تضرعا وخفية . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك؛ فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الرازي رحمه الله، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن؛ ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى: تدعونه تضرعا وخفية على أن دعاء السر أفضل. قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا بناء على أن قوله تعالى: تضرعا تذللا، لا جهرا. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهرا وسرا، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى: تضرعا وخفية أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده. أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى، كالأمراض والأسقام، [ ص: 2355 ] وما قيل: إن المراد بالأول كرب مخصوص، أو الأولى نعمة رفع، وهذه نعمة دفع، وأنه من قبيل (متقلدا سيفا ورمحا) - تكلف لا داعي له. كذا في "العناية".

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: وضع (تشركون)، موضع (لا تشركون) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: لنكونن من الشاكرين لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم، وشكرهم؛ لأنه عبادة، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه؛ إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة، فوضعه موضعه توبيخا لهم، لعدم الوفاء بالعهد. ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم، تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه. كذا في "العناية".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية