الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1336 [ ص: 339 ] حديث ثان لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه .

التالي السابق


ظاهر هذا الحديث يوجب التسوية بين ما بيع من الطعام جزافا وبين ما بيع منه كيلا ، أن لا يباع شيء من ذلك كله حتى يقبض ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخص في هذا الحديث طعاما من طعام ، ولا حالا من حال ، ولا نوعا من نوع .

وفي ظاهر هذا الحديث أيضا ما يدل على أن ما عدا الطعام لا بأس ببيعه قبل قبضه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خص الطعام بالذكر دون غيره ، وهذان موضعان تنازع [ ص: 340 ] فيهما العلماء قديما وحديثا ، وقد ذكرنا ما لهم في ذلك من الأقوال والاعتلال في باب نافع من هذا الكتاب ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

وأما الطعام الذي لا يباع قبل القبض عند مالك وأصحابه ، فقال مالك فيما ذكر ابن وهب وغيره عنه : لا يجوز بيع ما يؤكل أو يشرب قبل القبض ، لا من البائع ، ولا من غيره ، سواء كان بعينه أو بغير عينه .

وقال ابن القاسم : قال مالك : لا تبع الملح ، والكسبر ، والشونيز ، والتوابل ، حتى تستوفيها ، قال : وأما زريعة الجزر ، وزريعة السلق ، والكراث ، والجرجير ، والبصل ، وما أشبهه فلا بأس أن تبيعه قبل أن تستوفيه ; لأن هذا ليس بطعام ، ويجوز فيه التفاضل ، وليس كزريعة الفجل الذي منه الزيت ، هذا طعام ; لأن الزيت فيه ، قال : وقال مالك : الطعام كله لا يجوز بيعه قبل القبض إذا اشتري كيلا ، فإن اشتري جزافا جاز ، ولا خلاف عن مالك وأصحابه في غير المأكول والمشروب ، ونحو الثياب وسائر العروض - العقار وغيره - أنه يجوز بيعها قبل قبضها ممن اشترى منه ومن غيره ، وكذلك إذا أسلف فيها يجوز بيعها من الذي هي عليه ومن غيره ، إلا أنه إذا باعها ممن [ ص: 341 ] هي عليه في السلم لم يبعها إلا بمثل رأس المال أو بأقل ، لا يزاد على رأس ماله ، ولا يؤخره ، وإن باعه منه بعرض جاز قبل الأجل وبعده ، إذا قبض العرض ولم يؤخره ، وكان العرض مخالفا لهما بينا خلافه ، هذا كله أصل قول مالك في هذا الباب وجملته .

وأما فروع هذا الباب ونوازله فكثيرة جدا - على مذهب مالك وأصحابه - ولهم في ذلك كتب معروفة ، قد أكثروا فيها من التنزيل والتفريع على المذهب ، فمن أراد ذلك تأملها هنالك ، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الطعام كله المأكول والمشروب - غير الماء وحده - لا يجوز بيع شيء منه قبل قبضه ، إذا بيع على الكيل أو الوزن ، لا من البائع له ولا من غيره ، لا من سلم ولا من بيع معاينة ، لا بأكثر من الثمن ولا بأقل ، وجائز عندهم الإقالة في الطعام قبل أن يستوفى بمثل رأس المال سواء ، وكذلك الشركة عندهم والتولية فيه ، وقد قال بهذا القول طائفة من أهل المدينة ، وقال سائر الفقهاء وأهل الحديث : لا يجوز بيع شيء من الطعام قبل أن يستوفى ، ولا تجوز فيه الإقالة ولا الشركة ولا التولية عندهم - قبل أن يستوفى - بوجه من الوجوه ، والإقالة والشركة والتولية عندهم بيع ، وقد جعل بعضهم الإقالة فسخ بيع ، ولم يجعلها بيعا ، وأبى ذلك بعضهم ، ولم يختلف فقهاء الأمصار غير مالك وأصحابه في أن [ ص: 342 ] الشركة والتولية في الطعام لا يجوز قبل أن يستوفى ، وقد مضى ما للعلماء في معنى هذا الحديث من التنازع في المعاني في باب نافع ، عن ابن عمر من هذا الكتاب .

وأما اختلاف الفقهاء في الإقالة جملة ، هل هي فسخ بيع أو بيع ؟ فقال مالك : الإقالة بيع من البيوع ، يحلها ما يحل البيوع ، ويحرمها ما يحرم البيوع ، وهذا عنده إذا كان في الإقالة زيادة أو نقصان أو نظرة ، فإذا كان ذلك فهي بيع في الطعام وغيره ، ولا يجوز في الطعام قبل أن يستوفى - إذا كان قد بيع على الكيل ، فإن لم يكن في الإقالة زيادة ولا نقصان فهي عنده جائزة في الطعام قبل أن يستوفى وفي غير الطعام وفي كل شيء ، وكذلك التولية والشركة على ما قدمنا ، وقال الشافعي : لا خير في الإقالة على زيادة أو نقصان بعد القبض ; لأن الإقالة فسخ بيع .

وقال الشافعي أيضا وأبو حنيفة : الإقالة قبل القبض وبعد القبض فسخ ، لا يقع إلا بالثمن الأول ، سواء تقايلا بزيادة أو نقصان أو ثمن غير الأول .

وروى الحسن بن زيادة ، عن أبي حنيفة ، قال : الإقالة قبل القبض فسخ ، وبعد القبض بمنزلة البيع ، قال : وقال أبو يوسف : إذا كانت بالثمن الأول فهو كما قال أبو حنيفة ، وإن [ ص: 343 ] كانت بأكثر من الثمن أو بأقل فهو بيع مستقبل قبل القبض وبعده .

وروي عن أبي يوسف قال : هي بيع مستقبل بعد القبض ، وتجوز بالزيادة والنقصان وبثمن آخر .

وقال ابن سماعة ، عن محمد بن الحسن ، قال : إذا ذكر ثمنا أكثر من ثمنها أو غير ثمنها ، فهي بيع بما سمى .

وروى أصحاب زفر عن زفر ، قال : كان أبو حنيفة لا يرى الإقالة بمنزلة البيع في شيء ، إلا في الإقالة بعد تسليم الشفيع الشفعة ، فيوجب الشفعة بالإقالة .

وقال زفر : ليست في الإقالة شفعة .

وأما الإقالة في بعض السلم ، فجملة قول مالك : أنه لا يجوز أن يقيل من بعض ما أسلم فيه ، ويأخذ بعض رأس ماله .

وذكر ابن القاسم وغيره ، عن مالك ، قال : إذا كان السلم طعاما ورأس المال ثيابا ، جاز أن يقيله في بعض ويأخذ بعضا ، وإن كان السلم ثيابا موصوفة ، ورأس المال دراهم ، لم تجز الإقالة في بعضها دون بعض ; لأنه تصير فضة بفضة وثياب إلى أجل .

وقال مالك : إن أسلم ثيابا في طعام جازت الإقالة في بعض ، ويرد حصته من الثياب وإن حالت أسواق الثياب [ ص: 344 ] وليست كالدراهم ; لأنه ينتفع بها ، والثياب لم ينتفع بها إذا ردت ، فلو أقال من البعض جاز ، وقال ابن أبي ليلى وأبو الزناد : لا يجوز لمن سلم في شيء أن يقيل من بعض ويأخذ بعضا ، ولم يفسروا هذا التفسير ولا خصوا شيئا .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي ، وأصحابهم : جائز أن يقيل في بعض ، ويأخذ بعضا في السلم وغيره على كل حال .

وروى الثوري ، عن سلمة بن موسى وعبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الرجل يأخذ بعض سلمه وبعض رأس ماله ، قال : ذلك المعروف . والثوري ، عن جابر الجعفي ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه لم يكن يرى بذلك بأسا .

وروى ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : من سلم في شيء فلا يأخذ بعضه سلفا وبعضه عينا ، ليأخذ سلعته كلها ، أو رأس ماله ، أو ينظره .

وروى أشعث بن سوار ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : إذا أسلفت في شيء فخذ الذي أسلفت فيه ، أو رأس مالك .

واختلفوا في الإقالة في السلم من أحد الشريكين ، فقال مالك : إذا أسلم رجلان إلى رجل ثم أقاله أحدهما ، جاز في نصيبه ، وهو قول أبي يوسف والشافعي .

[ ص: 345 ] وقال أبو حنيفة : إذا أسلم رجلان إلى رجل ثم أقاله أحدهما لم يجز إلا أن يجيزها الآخر ، وهو قول الأوزاعي .

وقال مالك : لا يجوز بيع السلم قبل القبض ، وتجوز فيه الشركة والتولية ، وكذلك الطعام ; لأن هذا معروف وليس ببيع .

وقال أبو حنيفة : لا تجوز التولية والشركة في السلم ، ولا في الطعام قبل القبض ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وحجتهم أن الشركة والتولية بيع ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندك وربح ما لم يضمن ، وعن بيع الطعام حتى يقبض .

ومن حجة مالك في إجازة ذلك : أن الشركة والتولية عنده فعل خير ومعروف ، وقد ندب الله ورسوله إلى فعل الخير والتعاون على البر ، وقال صلى الله عليه وسلم : كل معروف صدقة وقد لزم الشركة والتولية عنده اسم البيع ، فلذلك جازا في الطعام قبل القبض ، وقد أجاز الجميع الإقالة برأس المال قبل القبض ، فالشركة والتولية كذلك .

[ ص: 346 ] وقال الشافعي : وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يقبض ; لأن ضمانه من البائع ، ولم يتكامل للمشتري فيه تمام ملك ، فيجوز له البيع ، قال : فلذلك قسنا عليه بيع العروض قبل أن تقبض ; لأنه بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن .

قال أبو عمر : قد مضى في بيع الطعام قبل أن يستوفى ما فيه كفاية في باب نافع عن ابن عمر ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية