الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1843 [ ص: 347 ] حديث ثالث لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : كنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة يقول لنا : فيما استطعتم .

وروى مالك أيضا ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه ، فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله ، وسنة رسوله فيما استطعت .

التالي السابق


ففي هذا الحديث دليل على أخذ البيعة للخلفاء على الرعية [ ص: 348 ] وكانت البيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر ، والخلفاء الراشدين أن يصافحه الذي يبايعه ويعاقده على السمع والطاعة ، في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وأن لا ينازع الأمر أهله .

رواه عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه : وأن نقوم - أو نقول - بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم ، وكان يقول لهم : فيما استطعتم . لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصافح النساء عند البيعة ، وكان يصافح الرجال ، وقد مضى هذا المعنى مجودا في باب محمد بن المنكدر من كتابنا هذا ، والحمد لله .

وأما الأيمان التي يأخذها الأمراء اليوم على الناس فشيء محدث ، وحسبك بما في الآثار من أمر البيعة حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ عليهم في البيعة أمورا كثيرة ، منها : النصح لكل مسلم ، وقد ذكرنا ما يجب على الرعية من نصح الأئمة في باب سهيل من هذا الكتاب عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . . . . الحديث . ونذكر هاهنا أحاديث البيعة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذها على أصحابه ; لتقف على أصل هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

[ ص: 349 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا خالد ، عن يونس ، عن عمرو بن سعيد ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن جرير ، قال : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة ، وأن أنصح لكل مسلم ، قال : فكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال : أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك ، فاختر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي وائل ، عن جرير ، قال : بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم ، وفراق المشرك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثني أبي ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن أبي نجيلة البجلي ، قال : قال جرير : أتيت [ ص: 350 ] النبي عليه السلام وهو يبايع الناس ، فقلت : يا رسول الله ، ابسط يدك أبايعك واشرط علي ، فأنت أعلم بالشرط ، قال : أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتناصح المسلم ، وتفارق المشرك وسيأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - : الدين النصيحة في باب سهيل من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

وفي حديث جرير المذكور : ابسط يدك أبايعك وفيه بيان ما ذكرنا ، ومثله ما قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن الهيثم أبو الأحوص ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أبو أيوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر وابن الزبير أنهما بايعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما ابنا سبع سنين ، فلما رآهما النبي - صلى الله عليه وسلم - تبسم وبسط يده وبايعهما .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وأحمد بن محمد ، قالا : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن يحيى بن سعيد ، وعبيد الله بن عمر ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، عن جده قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم على السمع [ ص: 351 ] والطاعة في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم . .

وقد روى هذا الحديث مالك ، عن يحيى بن سعيد ، وسيأتي في موضعه من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

حدثنا أحمد حدثنا مسلمة ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، قال : قدمت على عمر بعد هلاك أبي بكر ، فقلت : ارفع يدك أبايعك على ما بايعت عليه صاحبيك من قبل - أعني : النبي عليه السلام وأبا بكر - فبايعته على السمع والطاعة فيما استطعت .

وذكر سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) قال : نزلت يوم الحديبية ، قال أبي جريج : بايعوه على الإسلام ، ولم يبايعوه على الموت .

[ ص: 352 ] وذكر سنيد أيضا ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن أبي خالد الشعبي أن أبا سنان بن وهب الأسدي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية بيعة الرضوان ، فقال له : علام تبايعني ؟ قال أبو سنان : على ما في نفسك قال إسماعيل : وكانوا بايعوه يومئذ على أن لا يفروا . قال : وقال غير هشيم ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي مثله ، غير أنه قال أبو سنان بن محصن الأسدي : قال سنيد : وحدثنا معتمر بن سليمان ، عن كليب بن وائل ، عن حبيب بن أبي مليكة ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله ، وأنا أبايعه فصفق بيده على الأخرى .

قال أبو عمر : في هذا أيضا دليل على أن المبايعة من شأنها المصافحة ، ولم تختلف الآثار في ذلك ، وقد مضى في باب محمد بن المنكدر من هذا الكتاب أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا بايع النساء لم يصافحهن .

قال سنيد : وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، عن جابر ، سمعه يقول : كنا بالحديبية أربع عشرة مائة ، فبايعناه وعمر بن الخطاب آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي [ ص: 353 ] سمرة ، قال : فبايعناه غير الجد بن قيس ، اختبأ تحت بطن بعيره ، قيل لجابر : هل بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ؟ قال : لا ، ولكنه صلى بها ولم يبايع عند شجرة إلا عند الشجرة التي عند الحديبية ، قال أبو الزبير : وسئل جابر كيف بايعوا ؟ قال : بايعناه على أن لا نفر ، ولم نبايعه على الموت .

قال ابن جريج : وأخبرني أبو الزبير ، عن جابر ، قال : جاء عبد لحاطب بن أبي بلتعة - أحد بني أسد - يشتكي سيده فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال له : كذبت ، لا يدخلها ; إنه شهد بدرا والحديبية .

قال سنيد : وحدثنا مبشر الحلبي ، عن جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، عن أبي العقيب ، قال : شهدت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يبايع الناس بعد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فتجتمع عنده العصابة ، فيقول لهم : أتبايعون على السمع والطاعة لله ولكتابه ثم للأمير ؟ فيقولون : نعم ، قال : فتعلمت شرطه هذا وأنا كالمحتلم أو فوقه ، فلما خلا من عنده أتيته ، فابتدأته فقلت : أبايعك على السمع والطاعة لله ولكتابه ثم للأمير ، فصعد في البصر وصوب ، ورأيته أعجبه .

[ ص: 354 ] قال : وحدثنا معتمر بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن عمر أو عمرو بن عطية ، قال : أتيت عمر بن الخطاب وأنا غلام ، فبايعته على كتاب الله وسنة نبيه ، هي لنا وهي علينا ، فضحك وبايعني .

وذكر ابن أبي شيبة ، قال : أخبرنا عباد بن العوام ، عن أشعث بن سوار ، عن أبيه ، قال : سمعت موسى بن طلحة ، قال : بعث لي أمير المؤمنين علي وأنا في الأسارى ، فانطلقت ، فدخلت عليه فسلمت ، فقال : أتبايع وتدخل فيما دخل فيه الناس ؟ قلت : نعم ، قال : هكذا - ومد يده فبسطها - قال : فبايعته ، ثم قال : ارجع إلى أهلك ومالك ، قال : فلما رآني الناس قد خرجت جعلوا يدخلون فيبايعون .

وقد مضى في باب ابن المنكدر كثير من أحاديث البيعة والمصافحة بها عند ذكر بيعة النساء ، والحمد لله .

حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن أبي دليم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نعيم ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، قال : أخبرني الوليد بن كثير ، عن وهب بن كيسان ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، يقول : لما قدم مسلم بن عقبة المدينة أتت الأحياء يبايعونه ، فأتى بنو سلمة ولم آت معهم ، فقال : لا أبايعكم حتى يخرج إلي جابر ، قال : فأتاني قومي ، فناشدوني [ ص: 355 ] الله ، فقلت لهم : أنظروني ، فأتيت أم سلمة ، فاستشرتها في الخروج إليه ، فقالت : والله إني لأراها بيعة ضلالة ، ولكن قد أمرت أخي عبد الله بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه - كأنها أرادت أن تحقن دمه - قال جابر : فأتيته فبايعته .

قال أبو عمر : كذا قال : أخي عبد الله بن أبي أمية ، وصوابه : ابن أخي عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية ، ولم يدرك أخوها الحرة ، توفي قبل ذلك بكثير .

وبه عن ابن المبارك ، قال : حدثنا أبو عوانة ، قال : حدثنا سماك بن حرب ، أنه سأله رجل من الذين بايعوا المختار الكذاب ، فقال : تخاف علينا من بيعتنا لهذا الرجل ؟ فقال : ما أبالي أبايعته أو بايعت هذا الحجر ، إنما البيعة في القلب ، إن كنت منكرا لما يقول فليس عليك من بيعتك بأس .




الخدمات العلمية