الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون

                                                                                                                                                                                                                                        (76) يخبر تعالى عن حالة قارون وما فعل وفعل به ونصح ووعظ، فقال: إن قارون كان من قوم موسى أي: من بني إسرائيل، الذين فضلوا العالمين، وفاقوهم في زمانهم، وامتن الله عليهم بما امتن به، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة، ولكن قارون هذا، بغى على قومه وطغى بما أوتيه من الأموال العظيمة المطغية وآتيناه من الكنوز أي: كنوز الأموال شيئا كثيرا، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة : والعصبة من العشرة إلى التسعة إلى السبعة، ونحو ذلك. أي: حتى إن مفاتح خزائن أمواله تثقل الجماعة القوية عن حملها، هذه المفاتيح، فما ظنك بالخزائن؟! إذ قال له قومه ناصحين له محذرين له عن الطغيان: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين أي: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة، وتفتخر بها، وتلهيك عن الآخرة، فإن الله لا يحب الفرحين بها المكبين على محبتها.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1298 ] (77) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال، فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات، وتحصيل اللذات، ولا تنس نصيبك من الدنيا أي: لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك، وأحسن إلى عباد الله كما أحسن الله عليك بهذه الأموال، ولا تبغ الفساد في الأرض بالتكبر والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم، إن الله لا يحب المفسدين بل يعاقبهم على ذلك، أشد العقوبة.

                                                                                                                                                                                                                                        (78) فـ قال قارون -رادا لنصيحتهم، كافرا لنعمة ربه-: إنما أوتيته على علم عندي ؛أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو: على علم من الله بحالي، يعلم أني أهل لذلك، فلم تنصحوني على ما أعطاني الله ؟! قال تعالى مبينا أن عطاءه ليس دليلا على حسن حالة المعطى: أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا فما المانع من إهلاك قارون، مع مضي عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم منه، إذا فعل ما يوجب الهلاك؟! ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون بل يعاقبهم الله، ويعذبهم على ما يعلمه منهم، فهم وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة، وشهدوا لها بالنجاة، فليس قولهم مقبولا وليس ذلك رادا عنهم من العذاب شيئا، لأن ذنوبهم غير خفية، فإنكارهم لا محل له.

                                                                                                                                                                                                                                        (79) فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه، وعدم قبول نصيحة قومه، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه، وغره ما أوتيه من الأموال، فخرج ذات يوم في زينته أي: بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه، قد كان له من الأموال ما كان، وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه، وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها، فرمقته في تلك الحالة العيون، وملأت بزته القلوب، واختلبت زينته النفوس، فانقسم فيه الناظرون قسمين، كل تكلم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة، فـ قال الذين يريدون الحياة الدنيا أي: الذين تعلقت إرادتهم فيها، وصارت منتهى رغبتهم، ليس لهم إرادة في سواها، يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون من الدنيا ومتاعها وزهرتها إنه لذو حظ عظيم وصدقوا إنه لذو حظ عظيم، لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم، وإنه [ ص: 1299 ] ليس وراء الدنيا دار أخرى، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه، فصار هذا الحظ العظيم، بحسب همتهم، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطلبها، لمن أدنى الهمم وأسفلها وأدناها، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب الغالية.

                                                                                                                                                                                                                                        (80) وقال الذين أوتوا العلم الذين عرفوا حقائق الأشياء، ونظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر أولئك إلى ظاهرها: ويلكم متوجعين مما تمنوا لأنفسهم، راثين لحالهم، منكرين لمقالهم: ثواب الله العاجل، من لذة العبادة ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه. والآجل من الجنة وما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خير من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه، فهذه حقيقة الأمر، ولكن ما كل من يعلم ذلك يؤثر الأعلى على الأدنى، فما يلقى ذلك ويوفق له إلا الصابرون الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها، أن تشغلهم عن ربهم، وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له، فهؤلاء الذين يؤثرون ثواب الله على الدنيا الفانية.

                                                                                                                                                                                                                                        (81) فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازينت الدنيا عنده، وكثر بها إعجابه، بغته العذاب فخسفنا به وبداره الأرض جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد الله، أنزله الله أسفل سافلين هو وما اغتر به من داره وأثاثه ومتاعه. فما كان له من فئة أي: جماعة، وعصبة، وخدم، وجنود ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين أي: جاءه العذاب، فما نصر ولا انتصر.

                                                                                                                                                                                                                                        (82) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس أي: الذين يريدون الحياة الدنيا، الذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يقولون متوجعين ومعتبرين، وخائفين من وقوع العذاب بهم: ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر أي: يضيق الرزق على من يشاء، فعلمنا حينئذ أن بسطه لقارون، ليس دليلا على خير فيه، وأننا غالطون في قولنا: إنه لذو حظ عظيم و لولا أن من الله علينا فلم يعاقبنا على ما قلنا، فلولا فضله ومنته لخسف بنا فصار هلاك قارون عقوبة له، وعبرة وموعظة لغيره، حتى إن الذين غبطوه، سمعت كيف ندموا، وتغير فكرهم الأول، ويكأنه لا يفلح الكافرون أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1300 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية