الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن الآية (23) :

[ ص: 396 ] اعلم أن السلف اختلفوا في اشتراط الدخول في أمهات النساء.

فروي عن علي اشتراط ذلك، مثل ما في الربائب، وروي عن جابر مثل ذلك، وهو قول مجاهد وابن الزبير.

وأكثر العلماء على خلاف ذلك في الفرق بين الربائب وأمهات النساء.

فأما من جمع بينهما يقول:

الشرط إذا تعقب جملا رجع على الجميع، كالشرط والاستثناء بالمشيئة، وذلك ما قررناه في الأصول، وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة يسلمون الشرط والاستثناء بالمشيئة، ورجوعهما إلى الجميع، فوجب عليهما أن يفرقوا بينهما على كل حال.

فكان الفرق أن قوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم ، ثم قال: من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فنعت الربائب بنعت لا يتقرر ذلك النعت في أمهات النساء، ثم ذكر إضافة، فالظاهر أن الإضافة وهي قوله: من نسائكم لصاحبة الصفة، وكانت كالصفة الثانية، فلم يظهر رد النعت الثاني إلى أمهات الثاني، وقبله وصف لا يتصور فيهن، بل الثاني يتبع الأول.

ولو قال ظاهرا: "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، أوهم أن أمهات النساء من النساء، وذلك وصف للربائب، لا وصف أمهات النساء، فتقرير اللفظ بنات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.

والمخالف يقول: بل تقديره من حيث العطف: "وأمهات نسائكم وبنات نسائكم" وذلك يقتضي الجمع، فكأنه قال:

"وأمهاتهن وبناتهن"، فانصرف الثاني إلى ما انصرف الأول إليه، [ ص: 397 ] فتقديره: وأمهات نسائكم، وبنات نسائكم اللاتي في حجوركم، ونساؤكم ممن قد دخلتم بهن.

ويجاب عنه بأن الأسماء المتحدث عنها المذكورة، هي التي يصرف النعت إليها دون الأسماء المضاف إليها، إلا أن يتبين أن النعوت للأسماء المضاف إليها بنص، أو بضرب من الدليل يقوم مقامه، فإنك إذا قلت: لعلي بن محمد بن أبي الحسن علي ألف درهم، تكون الكنية لعلي دون محمد، وتقول زيد بن عبد الله الفقيه قال: ظاهر أن الفقيه هو الاسم المتحدث عنه.

فحاصل القول، أن الحكم إنما ورد في أمهات النساء وفي الربائب، وكانت الإضافة من النساء اللاتي دخلتم بهن لا تليق بأمهات النساء، وهي تليق بالربائب، جعل الشرط فيه فيهن، وقام مقام النعت، وكان جعل ذلك للنساء اللاتي أضيف الأمهات إليهن، إذ الأمهات والربائب جميعا دون الربائب ليس بمنصوص، ولم يجر فيه ما وصفتم من قولكم: وبنات نسائكم ونسائكم ممن قد دخلتم بهن، فإن ذلك بإضمار أمور يخرج بها اللفظ عن ظاهره.

وبالجملة لو جعل قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم تمام الكلام، ويجعل من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فيخرج الربائب اللاتي قد أجمعوا عليها من اللبن، فيكون تقديره: "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن".

[ ص: 398 ] ولا شك أن كلام المخالف ليس ينقطع بذلك، إلا أنه يقال:

ساق الله تعالى محرمات عدة مبهمة، وليس فيها تقييد، وجعل في آخرها تقييدا، فالأصل اتباع العموم وترك المشكوك فيه، والاحتياط للتحريم يقتضي ذلك فاعلمه.

وفي الناس من خص التحريم بالتي توصف بكونها ربيبة، وقال:

إذا لم تكن في حجر الزوج، وكانت في بلد آخر، وفارق الأم بعد الدخول، فله أن يتزوج بها، وهذا قول علي رضي الله عنه، على ما يرويه عنه مالك بن أوس، فإن صح هذا عنه فيقال:

يجوز أن يكون الله تعالى قد أجرى ذلك على الغالب، من غير أن تكون هذه الصفة شرطا في التحريم، إلا أن عليا يقول: فإن كان كذلك وثبت، فلم اعتبرتم هذا الوصف في قطع الشرط المذكور بعده عن الأول، وإنما قطعتموه بتخلل هذا الوصف في قطع الربائب، وفيه إبانة اتصال الوصف الثاني بالأول.

واعلم أن قول الله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم لم يستوعب المحرمات بالنسب والرضاع جميعا، فإنا بينا أن الآية ما تناولت [ ص: 399 ] الجدات من قبل الأم والأب حقيقة، ولا خالات الأب والجد وعماتهم، ولا خالات الأم وعماتهن.

وفي الرضاع لم يذكر بنات الأخ، وبنات الأخت، والخالات والعمات من الرضاعة، وكل ذلك مفوض إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يقال ذكر من ذكر، والسكوت عما سكت عنه لوجه صحيح، بل هو على ما شاء الله وأراده، لمصلحة خفية لم يطلع عليها، تولى بيان البعض وسكت عن البعض:

وإذا ثبت ذلك فقوله: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم الآية يقتضي تحريمهن مطلقا بملك اليمين وذلك النكاح، فإن الله تعالى أبان تحريم الاستمتاع، وحرم النكاح، لأنه طريق إلى الاستمتاع، وإذا ثبت ذلك وتقرر فقوله: حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله: وأن تجمعوا بين الأختين ، يقتضي تحريم الاستمتاع، إلا أن تحريم الاستمتاع بمنع النكاح ولا يمنع ملك اليمين، فنتيجته تحريم وطء المذكورين بملك اليمين، الذين لا يعتقون بالشراء.

واعلم أنه لا خلاف في تحريم وطء الأمهات، والأخوات من النسب، والرضاع بملك اليمين، وأن السبع اللواتي حرمن بالنسب، واللواتي حرمن بالنسب والصهر، حرم وطؤهن في ملك اليمين، ولا خلاف في تحريم الجمع بين وطء الأم والبنت بملك اليمين، وإذا دخل بالأم، حرمت البنت أبدا بملك اليمين، وحليلة الأب والابن محرمتان بملك اليمين.

[ ص: 400 ] وإذا ثبت ذلك وتقرر فالله تعالى يقول:

وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم .

وإنما أنزلت الآية على ما قاله عطاء بن أبي رباح في النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد فنزلت:

وما جعل أدعياءكم أبناءكم .

و ما كان محمد أبا أحد من رجالكم .

وكان يقال له: زيد بن محمد.

وسميت زوجة الإنسان حليلته، لأنها تحل معه في فراش واحد.

وقيل: لأنه يحل منها الجماع بعقد النكاح.

والأمة، وإن استباح فرجها بالملك، لا تسمى حليلة، ولا تحرم على الأب ما لم يطأها، وعقد نكاح الابن عليها يحرمها على أبيه تحريما مؤبدا.

وإذا تعلق التحريم باسم الحليلة، اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء، فشرط الوطء زيادة، لا يقتضيها اللفظ، وإذا ثبت ذلك فموطوءة الأب بملك اليمين أو بالشبهة، لا تسمى حليلة من حيث الإطلاق، ولكن اقتضى الإجماع إلحاقها بها.

وقوله تعالى: الذين من أصلابكم .

[ ص: 401 ] نفي للأدعياء، ولكنه لا ينفي الرضاع، والتحريم به ثابت، وليس الاسم بحقيقته متناولا للوطء بملك اليمين، وهو بحقيقته متناول لنفس النكاح، فإن اسم الحليلة حقيقة في نفس ملك النكاح.

وقوله: وأن تجمعوا بين الأختين .

معناه تحريم الجمع على الوجه الذي حرم الأفراد من المحرمات، وفي الذي تقدم حرم الاستمتاع.

فتقدير الكلام: ولا تجمعوا بين الأختين في الوطء، وذلك يعم الوطء في النكاح وملك اليمين، إلا أن ذلك في النكاح يمنع أصل النكاح، ولا يمنع ملك اليمين، فإذا ثبت ذلك وتقرر، نشأ منه أن الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز، ونشأ منه تحريم وطء الأختين بملك اليمين.

وفي هذا على الخصوص نقل خلاف عن السلف، ثم زال الاختلاف.

وإذا تبين أن المنصوص على تحريمه جمع مضاف إليه، حتى يقال هو الذي يمسكهما ويطؤهما، فإذا زال النكاح، زال هذا المعنى من كل وجه، ولم يكن إمساك المعتدة مضافا إليه، فيقتضي هذا أن لا يكون النهي عن الجمع متنا، ولا من نكح الأخت في عدة الأخت، وإذا تبين ذلك، بقيت على مقتضى قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم وهذا بين حسن، فكان الأصل الإباحة. ثم طرأ مانع. زال المانع فرجع إلى الأصل.

قوله تعالى: إلا ما قد سلف .

[ ص: 402 ] يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: إلا ما قد سلف في قوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، ويحتمل معنى زائدا، وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية، كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام، خير بين الأختين، على ما قاله الشافعي رضي الله عنه، من غير إجراء عقود الكفار، على موجب الإسلام ومقتضى الشرع، فهذا تحقيق القول في محتملات هذا اللفظ، فلا جرم، قال الشافعي رضي الله عنه:

إذا أسلم الكافر عن أختين، خير بينهما، سواء جمعهما في عقد واحد أو في عقدين.

وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد، وتعين الأولى إن فرق.

والشافعي لما رأى قوله تعالى: إلا ما قد سلف غير نص في مقصوده، أراد أن يستدل بالنص، فاستدل بحديث فيروز الديلمي والحارث ابن قيس .

والعجب أن الرازي قال في أحكام القرآن:

لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين، لم يجز أن يبقى له عقد على الأختين، وإن لم يكونا أختين في حال العقد، كما إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة، واستوى حكم الابتداء والانتهاء.

ونقلنا هذا الكلام بلفظه، وذكر بعده كلمات يسيرة، ثم نقل [ ص: 403 ] احتجاج الشافعي رضي الله عنه، بحديث فيروز الديلمي، والحارث بن قيس وقال:

يحتمل أن يكون العقد قد كان قبل نزول التحريم، فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم، فلزمه اختيار أربع منهن ومفارقة سائرهن، كرجل له امرأتان، فطلق إحداهما ثلاثا، فيقال له: اختر أيتهما شئت، لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم.

ووجه على نفسه سؤالا فقال:

إن قال قائل: لو كان ذلك يختلف، لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

فأجاب بأن قال: قيل له:

يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك، فاكتفى بعلمه عن مسألته.

نقلنا هذا الفصل بلفظه، متعجبين من جهله بسياقه بكلاميه، وأنه كيف تناقض أول كلامه وآخره مع تفاوت ما بين الأول والآخر، وفي النوع الواحد من الكلام.

كيف لم يتصور عين التناقض، وذكر في التأويل أنه يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم، فكان صحيحا إلى أن طرأ عليه التحريم؟ فلم يجعل طريان التحريم مانعا اختيار الأربع، لأن العقد في الأول كان صحيحا على الجميع، ثم قال قبله كلمات: لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين، لم يجز أن يبقى له عقد على أختين، وإن لم يكونا أختين في حالة العقد، كرجل تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة.

[ ص: 404 ] فليت شعري، نكاح الرضيعتين في الأول كان صحيحا حتى بطل الجميع بطريان الرضاع، أم نكاح فيروز الديلمي لما كان صحيحا في الأول، لم يبطل بما طرأ من الإسلام، وكيف يتصور الجمع بينهما؟ وكيف يتم له هذا القياس، وقد جعل الطارئ من التحريم كالمقارن بدليل الرضاع..؟

وتأويل خبر الديلمي ينقض هذا القياس، فإن النكاح لما كان صحيحا عنده لم ينقض، وفي الرضاع كان صحيحا ونقض.

وكيف يتصدى للتصنيف في الدين من هذا مبلغ علمه ومقدار فهمه، فيرسل الكلام إرسالا من غير أن يتحقق ما يقول، ويحصل على نفسه ما يورده، ثم يتعرض للطعن فيمن لو عمر عمر نوح، ما اهتدى إلى مبادئ نظره في الحقائق؟ فنسأل الله تعالى التوفيق، ونسأله النجاة من عمى البصيرة واتباع الهوى.

واعلم أن المنصوص على تحريمه في كتاب الله تعالى، هو الجمع بين الأختين، وقد وردت آثار متواترة في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، رواه علي وابن عباس وابن عمر وأبو موسى وجابر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة، وعليه الإجماع، إلا ما نقل عن طائفة من الخوارج، فإنهم زعموا أن قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، لا يدفع بأخبار الآحاد، وذلك متهم بناء على أن أخبار الآحاد لا يخص بها عموم الكتاب.

والأخبار في تحريم الجمع بين العمتين والخالتين، إن كانت مقرونة في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان الآية، فتخصيص، وإن تقدم الخبر فقوله [ ص: 405 ] وأحل لكم ما وراء ذلكم ، منزل على موجب الخصوص، وإن تراخى فنسخ، وللناس في نسخ الكتاب بأخبار الآحاد كلام، والصحيح جوازه.

ومع أن قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، ليس نصا أصلا، وإذا لم يثبت التاريخ، فالمطلق منهم محمول على المقيد، على قول الشافعي رضي الله عنه، وهو قول أكثر الأصوليين.

وعند قوم منهم يتعارضان، وهو قول كثير من المحققين، والتعارض ها هنا سبب التحريم، فإن تعارض المبيح والمحرم يقتضي التحريم لا محالة.

التالي السابق


الخدمات العلمية