الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        282 - الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول - { من أدرك ماله بعينه عند رجل - أو إنسان - قد أفلس فهو أحق به من غيره } .

                                        التالي السابق


                                        فيه مسائل . الأولى رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس ، أو الموت . فيه ثلاثة مذاهب الأول : أنه يرجع إليه في الموت والفلس . وهذا مذهب الشافعي .

                                        والثاني : أنه لا يرجع إليه ، لا في الموت ولا في الفلس وهو مذهب أبي حنيفة .

                                        والثالث : يرجع إليه في الفلس دون الموت . ويكون في الموت أسوة الغرماء . وهو مذهب مالك .

                                        وهذا الحديث دليل على الرجوع في الفلس ، ودلالته قوية جدا ، حتى قيل : إنه لا تأويل له . وقال الإصطخري من أصحاب الشافعي : لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه . [ ص: 531 ] ورأيت في تأويله وجهين ضعيفين :

                                        أحدهما : أن يحمل على الغصب الوديعة ، لما فيه من اعتبار حقيقة المالية . وهو ضعيف جدا ; لأنه يبطل فائدة تعليل الحكم بالفلس .

                                        الثاني : أن يحمل على ما قبل القبض . وقد استضعف بقوله صلى الله عليه وسلم " أدرك ماله ، أو وجد متاعه " فإن ذلك يقتضي إمكان العقد وذلك بعد خروج السلعة من يده .

                                        المسألة الثانية : الذي يسبق إلى الفهم من الحديث : أن الرجل المدرك ههنا : هو البائع ، وأن الحكم يتناول البيع . لكن اللفظ أعم من أن يحمل على البائع فيمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرض رجل مالا ، وأفلس المستقرض ، والمال باق ، فإن المقرض يرجع فيه . وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع ، بعد التفريع على أنه يملك بالقبض .

                                        وقيل في القياس : مملوك ببدل تعذر تحصيله . فأشبه المبيع . وإدراجه تحت اللفظ ممكن إذا اعتبرناه من حيث الوضع . فلا حاجة إلى القياس فيه .

                                        المسألة الثالثة : لا بد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها ، وإن لم تذكر لفظا . مثل : كون الثمن غير مقبوض . ومثل : كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره . ومثل : كون المال لا يفي بالديون ، احترازا عما إذا كان مساويا ، وقلنا : يحجر على المفلس في هذه الصورة .

                                        المسألة الرابعة : إذا أجر دارا أو دابة . فأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة . فللمؤجر الفسخ على الصحيح من مذهب الشافعي .

                                        وإدراجه تحت لفظ الحديث متوقف على أن المنافع : هل ينطلق عليها اسم " المتاع " أو " المال " ؟ وانطلاق اسم " المال " عليها أقوى وقد علل منع الرجوع : بأن المنافع لا تتنزل منزلة الأعيان القائمة . إذ ليس لها وجود مستقر . فإذا ثبت انطلاق اسم " المال " أو " المتاع " عليها فقد اندرجت تحت اللفظ وإن نوزع في ذلك ، فالطريق أن يقال : إن اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين . ومن لوازم ذلك : الرجوع في المنافع . فيثبت بطريق اللازم ، لا بطريق الأصالة . وإنما قلنا : إنه يتوقف عن كون اسم " المنافع " ينطلق عليها اسم " المال " أو " المتاع " ; لأن الحكم في اللفظ معلق بذلك في الأحاديث [ ص: 532 ] ونقول أيضا : الرجوع إنما هو في المنافع . فإنها المعقود عليه ، والرجوع إنما يكون فيما يتناوله العقد . والعين لم يتناولها عقد الإجارة .



                                        المسألة الخامسة : إذا التزم في ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان . ثم أفلس ، والأجرة بيده قائمة : ثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة . واندراجه تحت الحديث ظاهر ، إن أخذنا باللفظ . ولم نخصصه بالبائع . فإن خص به فالحكم ثابت بالقياس ، لا بالحديث .



                                        المسألة السادسة : قد يمكن أن يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر . ووجهه : أنه يندرج تحت كونه أدرك ماله . فيكون أحق به . ومن لوازم ذلك : أن يحل ، إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول



                                        المسألة السابعة : يمكن أن يستدل به على أن الغرماء إذا قدموا البائع بالثمن لم يسقط حقه من الرجوع . لاندراجه تحت اللفظ . والفقهاء عللوه بالمنة .

                                        المسألة الثامنة : قيل : إن هذا الخيار في الرجوع يستبد به البائع . وقيل : لا بد من الحكم . والحديث يقتضي ثبوت الأحقية بالمال . وأما كيفية الأخذ : فهو غير متعرض له . وقد يمكن أن يستدل به على الاستبداد ، إلا أن فيه ما ذكرنا .

                                        المسألة التاسعة : الحكم في الحديث معلق بالفلس ، ولا يتناول غيره . ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم ، مع اليسار ، أو هربه ، أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته - فإنما يثبته بالقياس على الفلس ، ومن يقول بالمفهوم في مثل هذا : فله أن ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث .

                                        المسألة العاشرة : شرط رجوع البائع : بقاء العين في ملك المفلس ، فلو هلكت لم يرجع ، لقوله عليه الصلاة والسلام { فوجد متاعه ، أو أدرك ماله } فشرط في الأحقية : إدراك المال بعينه ، وبعد الهلاك : فات الشرط ، وهذا ظاهر في الهلاك الحسي . والفقهاء نزلوا التصرفات الشرعية منزلة الهلاك الحسي ، كالبيع والهبة ، والعتق ، والوقف ، ولم ينقضوا هذه التصرفات . بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها . فإذا تبين أنها كالهالكة شرعا : دخلت تحت اللفظ . فإن البائع حينئذ لا يكون مدركا لماله . واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري ، بعد أن خرج عنه ، ثم رجع إليه [ ص: 533 ] بغير عوض . فقيل : يرجع فيه ; لأنه وجد ماله بعينه ، فيدخل تحت اللفظ . وقيل : لا يرجع ; لأن هذا الملك متلقى من غيره ; لأنه لو تخللت حالة لو صادفها الإفلاس والحجر ، لما رجع ، فيستصحب حكمها . وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص ، بسبب معنى مفهوم منه ، وهو الرجوع إلى العين ، لتعذر العوض من تلك الجهة ، كما يفهم منه ما قدمنا ذكره ، أو تخصيص بالمعنى ، وإن سلم باقتضاء اللفظ له .



                                        المسألة الحادية عشرة : إذا باع عبدين - مثلا - فتلف أحدهما ، ووجد الثاني بعينه . رجع فيه عند الشافعي . والمذهب : أنه يرجع بحصته من الثمن ، ويضارب بحصة ثمن التلف . وقيل : يرجع في الباقي بكل الثمن . فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله " فوجد متاعه ، أو ماله " فإن الباقي متاعه أو ماله ، وأما كيفية الرجوع : فلا تعلق للفظ به .

                                        المسألة الثانية عشرة : إذا تعذر المبيع في صفته ، بحدوث عيب . فأثبت الشافعي الرجوع ، إن شاءه البائع بغير شيء يأخذه ، وإن شاء ضارب بالثمن . وهذا يمكن أن يدرج تحت اللفظ . فإنه وجده بعينه ، والتغير حادث في الصفة لا في العين .

                                        المسألة الثالثة عشرة : إطلاق الحديث يقتضي : الرجوع في العين ، وإن كان قد قبض بعض الثمن . وللشافعي قول قدم : أنه لا يرجع في العين إذا قبض بعض الثمن . لحديث ورد فيه .

                                        المسألة الرابعة عشرة : الحديث يقتضي الرجوع في متاعه ، ومفهومه : أنه لا يرجع في غير متاعه . فيتعلق بذلك الكلام في الزوائد المنفصلة فإنها تحدث ملك المشتري ، فليس بمتاع للبائع . فلا رجوع له فيها .

                                        المسألة الخامسة عشرة : لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على المفلس . ويؤخذ ذلك من الحديث الذي في لفظه ترتيب الأحقية على المفلس بصيغة [ ص: 534 ] الشرط ، فإن المشروط مع الشرط ، أو عقيبه . ومن ضرورة ذلك : تقدم سبب اللزوم على الفلس .




                                        الخدمات العلمية