الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (49) قوله تعالى: وإذ نجيناكم من آل فرعون : "إذ" في موضع نصب عطفا على "نعمتي"، وكذلك الظروف التي بعده نحو: [ ص: 341 ] "وإذ واعدنا"،"وإذ قلتم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "أنجيتكم" على التوحيد، وهذا خطاب للموجودين في زمن الرسول عليه السلام، ولا بد من حذف مضاف أي: أنجينا آباءكم، نحو: حملناكم في الجارية أو لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الإنجاء والنجاة الإلقاء على نجوة من الأرض، وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات، ثم أطلق الإنجاء على كل فائز وخارج من ضيق إلى سعة وإن لم يلق على نجوة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"من آل" متعلق به، و"من" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      و"آل" اختلف فيه على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه وأتباعه: إن أصله أهل، فأبدلت الهاء همزة لقربها منها، كما قالوا: ماء وأصله: ماه، ثم أبدلت الهمزة ألفا؛ لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو: آمن وآدم، ولذلك إذا صغر رجع إلى أصله فتقول: أهيل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : "وقال بعضهم: أويل، فأبدلت الألف واوا، ولم يرده إلى أصله، كما لم يردوا "عييد" إلى أصله في التصغير"، يعني فلم يقولوا "عويد" لأنه من عاد يعود، قالوا: لئلا يلتبس بعود الخشب.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا نظر؛ لأن النحويين قالوا: من اعتقد كونه من "أهل" صغره على أهيل، ومن اعتقد كونه من آل يؤول - أي رجع - صغره على أويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب النحاس إلى أن أصله "أهل" أيضا، إلا أنه قلب الهاء ألفا من غير أن يقلبها أولا همزة، وتصغيره [ ص: 342 ] عنده على أهيل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي: أويل، قد تقدم ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من قال: أصله مشتق من آل يؤول، أي: رجع؛ لأن الإنسان يرجع إلى آله، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وتصغيره على أويل نحو: مال ومويل، وباب وبويب، ويعزى هذا للكسائي.

                                                                                                                                                                                                                                      وجمعه آلون وآلين وهو شاذ كأهلين؛ لأنه ليس بصفة ولا علم.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف فيه: فقيل: "آل الرجل" قرابته كأهله، وقيل: من كان من شيعته، وإن لم يكن قريبا منه وقيل: من كان تابعا له وعلى دينه وإن لم يكن قريبا منه، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      444 - فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر



                                                                                                                                                                                                                                      ولهذا قيل: [إن] آل النبي من آمن به إلى آخر الدهر، ومن لم يؤمن به فليس بآله، وإن كان نسيبا له، كأبي لهب وأبي طالب.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف فيه النحاة: هل يضاف إلى المضمر أم لا؟ فذهب الكسائي وأبو بكر الزبيدي والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز، فلا يجوز: اللهم صل على محمد وآله، بل: وعلى آل محمد، وذهب جماعة منهم [ابن] السيد إلى جوازه، واستدل بقوله عليه السلام، لما سئل فقيل: يا رسول الله من آلك؟ فقال: "آلي كل تقي [ ص: 343 ] إلى يوم القيامة" وأنشدوا قول أبي طالب:


                                                                                                                                                                                                                                      445 - لا هم إن المرء يمـ     نع رحله فامنع حلالك
                                                                                                                                                                                                                                      وانصر على آل الصليـ     ـب وعابديه اليوم آلك



                                                                                                                                                                                                                                      وقول ندبة:


                                                                                                                                                                                                                                      446 - أنا الفارس الحامي حقيقة والدي     وآلي كما تحمي حقيقة آلكا



                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا - أيضا - فيه: هل يضاف إلى غير العقلاء فيقال: آل المدينة وآل مكة؟ فمنعه الجمهور، وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة، ولا يضاف إلا إلى من له قدر وخطر، فلا يقال: آل الإسكاف ولا آل الحجام، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنى لا لفظا، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو "أهل".

                                                                                                                                                                                                                                      هذا كله في "آل" مرادا به الأهل، أما "آل" الذي هو السراب فليس مما نحن فيه في شيء، وجمعه أأوال، وتصغيره أويل ليس إلا، نحو: مال وأموال ومويل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فرعون" خفض بالإضافة، ولكنه لا ينصرف للعجمة والتعريف.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف فيه: هل هو علم شخص أو علم جنس، فإنه يقال لكل من ملك القبط ومصر: فرعون، مثل: كسرى لكل من ملك الفرس، وقيصر [ ص: 344 ] لكل من ملك الروم، والقيل لكل من ملك حمير، والنجاشي لكل من ملك الحبشة، وبطليموس لكل من ملك اليونان.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : "وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر للروم، ولعتو الفراعنة اشتقوا منه: تفرعن فلان إذا عتا وتجبر، وفي ملح بعضهم:


                                                                                                                                                                                                                                      447 - قد جاءه الموسى الكلوم فزاد في     أقصى تفرعنه وفرط عرامه



                                                                                                                                                                                                                                      وقال المسعودي: "لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية"، و[ظاهر] كلام الجوهري أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: "والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي: دهاء ومكر".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الحديث: "أخذنا فرعون هذه الأمة" إلا أن يريد معنى ما قاله الزمخشري المتقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يسومونكم سوء العذاب": هذه الجملة في محل نصب على الحال من "آل" حال كونهم سائمين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك، وتكون حكاية حال ماضية، قال بمعناه ابن عطية ، وليس بظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم يسومونكم، ولا حاجة إليه [ ص: 345 ] أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"كم" مفعول أول، و"سوء" مفعول ثان؛ لأن "سام" يتعدى لاثنين كأعطى، ومعناه: أولاه كذا وألزمه إياه أو كلفه إياه، ومنه قول عمرو بن كلثوم:


                                                                                                                                                                                                                                      448 - إذا ما الملك سام الناس خسفا     أبينا أن نقر الخسف فينا



                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : "وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه"، وقيل: أصل السوم الدوام، ومنه: سائمة الغنم لمداومتها الرعي.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: يديمون تعذيبكم، وسوء العذاب أشده وأفظعه وإن كان كله سيئا، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره.

                                                                                                                                                                                                                                      والسوء: كل ما يعم الإنسان من أمر دنيوي وأخروي، وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف، قال تعالى: أساءوا السوأى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز بعضهم أن يكون "سوء" نعتا لمصدر محذوف، تقديره: يسومونكم سوما سيئا كذا قدره، وقال أيضا: "ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب"، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر، نحو: "قعد جلوسا"؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى يذبحون هذه الجملة يحتمل أن تكون مفسرة للجملة قبلها، وتفسيرها لها على وجهين: أحدهما أن تكون مستأنفة، فلا محل لها حينئذ من الإعراب، كأنه قيل: كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل: يذبحون.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون بدلا منها كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 346 ]

                                                                                                                                                                                                                                      449 - متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا      . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف ولذلك ترك العاطف، ويحتمل أن تكون حالا ثانية، لا على أنها بدل من الأولى، وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع أبو البقاء هذا الوجه محتجا بأن الحال تشبه المفعول به ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف، وهذا بناء منه على أحد القولين، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل "يسومونكم ".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "يذبحون" بالتخفيف، والأولى قراءة الجماعة لأن الذبح متكرر.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: لم لم يؤت هنا بواو العطف، كما أتي بها في سورة إبراهيم؟ فالجواب أنه أريد هنا التفسير كما تقدم، وفي سورة إبراهيم معناه: يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: يجوز أن تكون الواو زائدة فتكون كآية البقرة، واستدل هذا القائل على زيادة الواو بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      450 - فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      إلى الملك القرم وابن الهمام      . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 347 ] والجواب الأول هو الأصح.

                                                                                                                                                                                                                                      والذبح: أصله الشق، ومنه: "المذابح" لأخاديد السيول في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أبناء" جمع ابن، رجع به إلى أصله، فردت لامه، إما الواو أو الياء حسبما تقدم، والأصل: "أبناو" أو "أبناي"، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة، والمراد بهم الأطفال، وقيل: الرجال، وعبر عنهم بالأبناء اعتبارا بما كانوا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ويستحيون عطف على ما قبله، وأصله: يستحييون، فأعل بحذف الياء بعد حذف حركتها وقد تقدم بيانه، فوزنه يستفعون.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالنساء الأطفال، وإنما عبر عنه بالنساء لمآلهن إلى ذلك، وقيل: المراد غير الأطفال، كما قيل في الأبناء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولام النساء الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهو نسوان ونسوة، ويحتمل أن تكون ياء اشتقاقا من النسيان، وهل نساء جمع نسوة أو جمع امرأة من حيث المعنى؟ قولان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم الجار خبر مقدم، و"بلاء" مبتدأ، ولامه واو لظهورها في الفعل نحو: بلوته، أبلوه، ولنبلونكم فأبدلت همزة.

                                                                                                                                                                                                                                      والبلاء يكون في الخير والشر، قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة لأن الابتلاء امتحان فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا، وبالشر ليصبروا، وقال ابن كيسان: "أبلاه وبلاه في الخير" وأنشد:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 348 ]

                                                                                                                                                                                                                                      452 - جزى الله بالخيرات ما فعلا بكم     وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو



                                                                                                                                                                                                                                      فجمع بين اللغتين، وقيل: الأكثر في الخير أبليته، وفي الشر بلوته، وفي الاختبار ابتليته وبلوته، قال النحاس: "فاسم الإشارة من قوله: "وفي ذلكم" يجوز أن يكون إشارة إلى الإنجاء" وهو خير محبوب، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذبح، وهو شر مكروه".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "والبلاء: المحنة إن أشير بـ"ذلك" إلى صنيع فرعون، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء"، وهو حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : "ذلكم" إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خير فهو كمفرد حاضر، كأنه يريد أنه أشير به إلى مجموع الأمرين من الإنجاء والذبح، ولهذا قال بعده: "ويكون البلاء في الخير والشر" وهذا غير بعيد، ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      453 - إن للخير وللشر مدى     وكلا ذلك وجه وقبل



                                                                                                                                                                                                                                      و من ربكم متعلق بـ"بلاء"، و"من" لابتداء الغاية مجازا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء : "هو رفع صفة لـ"بلاء" فيتعلق بمحذوف" وفي هذا نظر، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان إحداهما صريحة والأخرى مؤولة قدمت الصريحة، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"عظيم" صفة لـ"بلاء" وقد تقدم معناه مستوفى في أول السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 349 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية