الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (61) قوله تعالى: لن نصبر على طعام واحد : ناصب ومنصوب، والجملة في محل نصب بالقول، وقد تقدم الكلام على "لن"، وقوله "طعام واحد" وإنما كانا طعامين وهما المن والسلوى; لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، فأريد نفي التبدل والاختلاف، أو لأنهما [ ص: 390 ] ضرب واحد لأنهما من طعام أهل التلذذ والترف، ونحن أهل زراعات، لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، وقيل: كنوا بذلك عن الغنى، فكأنهم قالوا: لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضا وكذلك كانوا، وهم أول من اتخذ الخدم والعبيد.

                                                                                                                                                                                                                                      والطعام: اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، ومنه ومن لم يطعمه وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبر والتمر، وفي حديث الصدقة: "أو صاعا من طعام أو صاعا من شعير"، والطعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق، تقول: طعمه حلو وطعمه مر، وبضمها الشيء المطعوم كالأكل والأكل، قال أبو خراش:


                                                                                                                                                                                                                                      496 - أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم     وأغتبق الماء القراح فأنتهي
                                                                                                                                                                                                                                      إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم



                                                                                                                                                                                                                                      أراد بالأول المطعوم، وبالثاني ما يشتهى منه، وقد يعبر به عن الإعطاء، قال عليه السلام: "إذا استطعمكم الإمام فأطعموه" أي: إذا [ ص: 391 ] استفتح فافتحوا عليه، وفلان ما يطعم النوم إلا قائما، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      497 - نعاما بوجرة صفر الخدو     د ما تطعم النوم إلا صياما



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فادع اللغة الفصيحة "ادع" بضم العين من دعا يدعو، ولغة بني عامر: فادع بكسر العين، قال أبو البقاء : "لالتقاء الساكنين، يجرون المعتل مجرى الصحيح، ولا يراعون المحذوف" يعني أن العين ساكنة لأجل الأمر، والدال قبلها ساكنة، فكسرت العين، وفيه نظر؛ لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يكسر الأول من الساكنين لا الثاني، فيجوز أن يكون [من لغتهم] دعى يدعي مثل رمى يرمي.

                                                                                                                                                                                                                                      والدعاء هنا السؤال، ويكون بمعنى التسمية كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      498 - دعتني أخاها أم عمرو      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم، و"لنا" متعلق به، واللام للعلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله "يخرج" مجزوم في جواب الأمر، وقال بعضهم: مجزوم بلام الأمر مقدرة، أي: ليخرج، وضعفه الزجاج ، وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 392 ] قوله: مما تنبت الأرض مفعول "يخرج" محذوف عند سيبويه تقديره: مأكولا [مما] أو شيئا مما تنبت الأرض، والجار يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، وتكون "من" لابتداء الغاية، وأن يكون صفة لذلك المفعول المحذوف، فيتعلق بمضمر أي: مأكولا كائنا مما تنبته الأرض و"من" للتبعيض، ومذهب الأخفش أن "من" زائدة في المفعول، والتقدير: يخرج ما تنبته الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أي: من الذي تنبته أو من شيء تنبته، ولا يجوز جعلها مصدرية؛ لأن المفعول المحذوف لا يوصف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر والمخرج جوهر، وكذلك على مذهب الأخفش لأن المخرج جوهر لا إنبات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من بقلها يجوز فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن يكون بدلا من "ما" بإعادة العامل، و"من" معناها بيان الجنس.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على "ما" أي: مما تنبته الأرض في حال كونه من بقلها و"من" - أيضا - للبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم أي: مما لا ساق له، وجمعه: بقول.

                                                                                                                                                                                                                                      والقثاء معروف، الواحد: قثاءة، فهو من باب قمح وقمحة، وفيها لغتان، المشهورة كسر القاف، [ ص: 393 ] وقرئ بضمها، والهمزة أصل بنفسها في قولهم: أقثأت الأرض أي: كثر قثاؤها ووزنها فعال، ويقال في جمعها قثائي مثل علباء وعلابي.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم: إلا أن قثاء من ذوات الواو، تقول: أقثأت القوم: أي أطعمتهم ذلك، وفثأت القدر سكنت غليانها بالماء، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      499 - تفور علينا قدرهم فنديمها     ونفثؤها عنا إذا حميها غلا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من هذا [القائل] وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدل عليها بقولهم: "أقثأت القوم" [بالهمز] ، بل كان ينبغي أن يقال: أقثيت، والأصل: أقثوت، لكن لما وقعت الواو في بنات الأربعة قلبت ياء، كأغزيت من الغزو، ولكان ينبغي أن يقال: "فثوت القدر" بالواو، ولقال الشاعر: نفثوها بالواو، والمقثأة والمقثؤة بفتح الثاء وضمها: موضع القثاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والفوم: الثوم، والفاء تبدل من الثاء، قالوا: جدف وجدث، وعاثور وعافور، ومعاثير ومعافير، ولكنه [على] غير قياس، وقيل: [ ص: 394 ] الحنطة، وأنشد ابن عباس :


                                                                                                                                                                                                                                      500 - قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا     نزل المدينة عن زراعة فوم



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أدنى" فيه ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: - وهو الظاهر، وهو قول أبي إسحاق الزجاج - أن أصله: أدنو من الدنو وهو القرب، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدنو في ذلك وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه أقرب لقلة قيمته وخساسته.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: - قول علي بن سليمان الأخفش - أن أصله أدنأ مهموزا من دنأ يدنأ دناءة، وهو الشيء الخسيس، إلا أنه خفف همزه كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      501 - ... ... ... ...     فارعي فزارة لا هناك المرتع



                                                                                                                                                                                                                                      ويدل عليه قراءة زهير الفرقبي: "أدنأ" بالهمز.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن أصله أدون [ ص: 395 ] من الشيء الدون أي الرديء، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام فصار: أدنو فأعل كما تقدم، ووزنه أفلع، وقد تقدم معنى الاستبدال، وأدنى خبر عن "هو" والجملة صلة وعائد، وكذلك "هو خير" - أيضا - صلة وعائد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مصرا" قرأه الجمهور منونا، وهو خط المصحف، فقيل: إنهم أمروا بهبوط مصر من الأمصار فلذلك صرف، وقيل: أمروا بمصر بعينه وإنما صرف لخفته، لسكون وسطه كهند ودعد، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      502 - لم تتلفع فضل مئزرها     دعد ولم تسق دعد في العلب



                                                                                                                                                                                                                                      فجمع بين الأمرين، أو صرفه ذهابا به إلى المكان، وقرأ الحسن وغيره: "مصر" وكذلك هي في بعض مصاحف عثمان ومصحف أبي، كأنهم عنوا مكانا بعينه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "إنه معرب من لسان العجم، فإن أصله مصرائيم، فعرب "، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه فلا ينبغي أن يصرف البتة لانضمام العجمة إليه، فهو نظير "ماه وجور وحمص" ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله ادخلوا مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      والمصر في أصل اللغة: [ ص: 396 ] "الحد الفاصل بين الشيئين" وحكي عن أهل هجر أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا: "اشترى فلان الدار بمصورها" أي: حدودها، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      503 - وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به     بين النهار وبين الليل قد فصلا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ما سألتم "ما" في محل نصب اسما لإن، والخبر في الجار قبله، و"ما" بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: الذي سألتموه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : "ويضعف أن يكون نكرة موصوفة" يعني أن الذي سألوه شيء معين فلا يحسن أن يجابوا بشيء مبهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "سلتم" مثل بعتم، وهي مأخوذة من سال بالألف، قال حسان رضي الله عنه:


                                                                                                                                                                                                                                      504 - سالت هذيل رسول الله فاحشة     ضلت هذيل بما سالت ولم تصب



                                                                                                                                                                                                                                      وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم: يتساولان، أو عن همزة؟ أقوال ثلاثة سيأتي بيانها إن شاء الله في سورة المعارج.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وضربت عليهم الذلة والمسكنة "ضربت" مبني للمفعول، "الذلة" قائم مقام الفاعل، ومعنى "ضربت" أي: ألزموها وقضي عليهم بها، من ضرب القباب، قال الفرزدق لجرير:


                                                                                                                                                                                                                                      505 - ضربت عليك العنكبوت بنسجها     وقضى عليك به الكتاب المنزل



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 397 ] والذلة: الصغار، والذل بالضم ما كان عن قهر، وبالكسر ما كان بعد شماس من غير قهر، قاله الراغب .

                                                                                                                                                                                                                                      والمسكنة: مفعلة من السكون؛ لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر، والمسكين مفعيل منه إلا أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم تمندل وتمدرع من الندل والدرع، وذلك لا يدل على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزيادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : وضربت عليهم الذلة والمسكنة فالميم في ذلك زائدة في أصح القولين "وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة، وأنه من مسك".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وباؤوا" ألف "باء بكذا" منقلبة عن واو لقولهم: "باء يبوء" مثل: قال يقول، قال عليه الصلاة والسلام: "أبوء بنعمتك علي" والمصدر البواء، وباء معناه رجع، وأنشد بعضهم:


                                                                                                                                                                                                                                      506 - فآبوا بالنهائب والسبايا     وأبنا بالملوك مصفدينا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وهم؛ لأن هذا البيت من مادة آب يؤوب فمادته من همزة وواو وباء، و"باء" مادته من باء وواو وهمزة، وادعاء القلب فيه بعيد [لأنه لم يعهد] تقدم العين واللام معا على الفاء في مقلوب وهذا من ذاك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 398 ] والبواء: الرجوع بالقود، وهم في هذا الأمر بواء أي: سواء، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      507 - ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي     محارمنا لا يبوؤ الدم بالدم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا يرجع الدم بالدم في القود، وباء بكذا أقر أيضا، ومنه الحديث المتقدم، أي أقر بها [وألزمها نفسي] ، وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      508 - أنكرت باطلها وبؤت بحقها      . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء، وقوله "وباؤوا بغضب" أي حلوا مبوأ ومعه غضب، واستعمال "باء" تنبيه على أن مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة، وذلك نحو: فبشرهم بعذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: "وقول من قال: "بؤت بحقها" أي: أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ، وقولهم: "حياك الله وبياك" أصله: بوأك وإنما غير للمشاكلة، قاله خلف الأحمر".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بغضب" في موضع الحال من فاعل "باؤوا": أي: رجعوا مغضوبا [ ص: 399 ] عليهم، وليس مفعولا به كمررت بزيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "هو من قولك: باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته، أي: صاروا أحقاء بغضبه"، وهذا التفسير ينفي كون الباء للحال.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله "من الله" الظاهر أنه في محل جر صفة لغضب، فيتعلق بمحذوف أي: بغضب كائن من الله.

                                                                                                                                                                                                                                      و"من" لابتداء الغاية مجازا، وقيل: هو متعلق بالفعل نفسه أي: رجعوا من الله بغضب، وليس بقوي.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ذلك بأنهم "ذلك" مبتدأ أشير به إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب، و"بأنهم" الخبر، والباء للسببية، أي: ذلك مستحق بسبب كفرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المهدوي: "الباء بمعنى اللام أي: لأنهم" ولا حاجة إلى هذا، فإن باء السببية تفيد التعليل بنفسها.

                                                                                                                                                                                                                                      و"يكفرون" في محل نصب خبرا لكان، وكان وما في حيزها في محل رفع خبرا لأن، وأن وما في حيزها في محل جر بالباء، والباء وما في حيزها في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله "بآيات الله" متعلق بيكفرون، والباء للتعدية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله "ويضتلون" في محل نصب عطفا على خبر كان، وقرئ: "تقتلون" بالخطاب التفاتا إلى الخطاب الأول بعد الغيبة، و"يقتلون" بالتشديد للتكثير.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "الأنبياء" مفعول به جمع نبي، والقراء على ترك الهمز في [ ص: 400 ] النبوة وما تصرف منها، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلا موضعين: في سورة الأحزاب: للنبي إن أراد [لا تدخلوا] بيوت النبي إلا فإن قالون حكى عنه في الوصل كالجماعة وسيأتي.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما من همز فإنه جعله مشتقا من النبأ وهو الخبر، فالنبي فعيل بمعنى فاعل، أي: منبئ عن الله برسالته، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول أي: إنه منبأ من الله بأوامره ونواهيه، واستدلوا على ذلك بجمعه على نبآء، كظريف وظرفاء، قال العباس بن مرداس:


                                                                                                                                                                                                                                      509 - يا خاتم النبآء إنك مرسل     بالخير، كل هدى السبيل هداكا



                                                                                                                                                                                                                                      فظهور الهمزتين يدل على كونه من النبأ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة، قال أبو علي: "قال سيبويه : بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يحققون نبيا وبرية، قال: وهو رديء"، وإنما استردأه لأن الغالب التخفيف" وقال أبو عبيد: الجمهور الأعظم من القراء والعوام على إسقاط الهمز من النبي والأنبياء، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه، فذكر أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا نبيء الله" فهمز، فقال: "لست نبيء الله" فهمز، "ولكن نبي الله" ولم يهمز، فأنكر عليه الهمز، قال: "وقال لي أبو عبيدة: العرب تبدل الهمز في ثلاثة أحرف: النبي والبرية والخابية وأصلهن الهمز"، قال أبو عبيدة: "ومنها حرف رابع: الذرية من ذرأ يذرأ، [ ص: 401 ] ويدل على أن الأصل الهمز قول سيبويه : إنهم كلهم يقول: تنبأ مسيلمة فيهمزون، وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير.

                                                                                                                                                                                                                                      أما الحديث فقد ضعفوه، قال ابن عطية : "مما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العباس: "يا خاتم النبآء" لم ينكره، ولا فرق بين الجمع والواحد"، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في المستدرك، وقال: هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: فإذا كان ذلك كذلك فليلتمس للحديث تخريج يكون جوابا عن قراءة نافع، على أن القطعي لا يعارض بالظني، وإنما نذكره زيادة فائدة، والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى: "نبأت من أرض كذا إلى أرض كذا" أي: خرجت منها إليها، فقوله: "يا نبيء الله" بالهمز يوهم يا طريد الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره، فنهاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا، لا لسبب يتعلق بالقراءة.

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير ذلك نهيه للمؤمنين عن قولهم: "راعنا"، لما وجدت اليهود بذلك طريقا إلى السب به في لغتهم، أو يكون حضا منه عليه السلام على تحري أفصح اللغات في القرآن وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من لم يهمز فإنه يحتمل وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه من المهموز ولكن خفف، وهذا أولى ليوافق القراءتين ولظهور الهمز في قولهم: تنبأ مسيلمة، وقوله: "يا خاتم النبآء".

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه أصل آخر بنفسه مشتق من نبا ينبو إذا ظهر وارتفع، ولا شك أن رتبة النبي مرتفعة ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخلق، والأصل: نبيو وأنبواء، فاجتمع الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغم، كميت في ميوت، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء، فصار أنبياء.

                                                                                                                                                                                                                                      والواو في النبوة بدل من الهمز على الأول [ ص: 402 ] وأصل بنفسها على الثاني، فهو فعيل بمعنى فاعل أي: ظاهر مرتفع، أو بمعنى مفعول أي: رفعه الله على خلقه، أو يكون مأخوذا من النبي الذي هو الطريق، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه، به يتوصلون إلى معرفة خالقهم، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      510 - لما وردن نبيا واستتب بنا     مسحنفر كخطوط النسج منسحل



                                                                                                                                                                                                                                      أي: طريقا، وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      511 - لأصبح رتما دقاق الحصى     مكان النبي من الكاثب



                                                                                                                                                                                                                                      الرتم بالتاء المثناة والمثلثة جميعا: الكسر، والكاثب بالمثلثة اسم جبل، وقالوا في تحقير نبوة مسيلمة: نبيئة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: جمعه على أنبياء قياس مطرد في فعيل المعتل نحو: ولي وأولياء، وصفي وأصفياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قالون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمدرك آخر، وهو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى، إلا أن يقع قبلها حرف مد فتبدل وتدغم، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في "بالسوء إلا" من الإبدال والإدغام، إلا أنه روي عنه خلاف في "بالسوء إلا" ولم يرو عنه هنا خلاف، كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللفظة وبابها، ففي التحقيق لم يترك همز "النبي" بل همزه ولما همزه أداه قياس تخفيفه إلى ذلك، ويدل على هذا الاعتبار أنه إنما يفعل ذلك حيث يصل، أما إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين لزوال السبب المذكور فهو تارك للهمز لفظا آت به تقديرا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 403 ] قوله تعالى: بغير الحق في محل نصب على الحال من فاعل "يقتلون" تقديره: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره: قتلا كائنا بغير الحق، فيتعلق بمحذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: "قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، فما فائدة ذكره؟ وأجاب بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم"، وقيل: إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لا حق، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ذلك بما عصوا مثل ما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تكرير اسم الإشارة قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه مشار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكفر وقتل الأنبياء، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيهما".

                                                                                                                                                                                                                                      و"ما" مصدرية والباء للسببية، أي بسبب عصيانهم، فلا محل لـ"عصوا" لوقوعه صلة، وأصل عصوا عصيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان هي والواو، فحذفت لكونها أول الساكنين، وبقيت الفتحة تدل عليها فوزنه فعوا "وكانوا يعتدون" في محل نصب خبرا لـ"كان"، وكان وما بعدها عطف على صلة "ما" المصدرية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل العصيان: الشدة، اعتصت النواة: اشتدت، والاعتداء المجاوزة من عدا يعدو، فهو افتعال منه، ولم يذكر متعلق العصيان والاعتداء ليعم كل ما يعصى ويعتدى فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 404 ] وأصل "يعتدون": يعتديون، ففعل به ما فعل بـ " يتقون " من الحذف والإعلال وقد تقدم، فوزنه يفتعون.

                                                                                                                                                                                                                                      والواو من "عصوا" واجبة الإدغام في الواو بعدها لانفتاح ما قبلها، فليس فيها مد يمنع من الإدغام، ومثله: فقد اهتدوا وإن تولوا وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو، فإن المد يقوم مقام الحاجز بين المثلين فيجب الإظهار، نحو " آمنوا وعملوا " ومثله: الذي يوسوس .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية