الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2009 - ويروى عن ابن جريج ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس في العرايا صدقة " . [ ص: 1080 ]

2010 - أخبرنا حميد قال : والعرايا تفسر على وجهين :

فأما مالك بن أنس فإنه كان يقول فيما حدثني عنه ابن أبي أويس : العرية هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج يعريها إياه ، فيأتي المعرى وهو الموهوب له إلى نخلته تلك ليجتنيها ، فيشق على المعري - وهو الواهب - دخوله عليه لمكان أهله في النخل ، قال : فجاءت الرخصة للواهب خاصة في أن يشتري ثمر تلك النخلة من الموهوب له بخرصها تمرا ، فهذا قول مالك .

وأما غير مالك فإنه كان يقول : العرايا هي النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته ، فلا يدخلها في البيع ، ولكنه يبقيها لنفسه وعياله ، فتلك هي الثنيا لا تخرص عليه ، لأنه قد عفي لهم عما يأكلون ، وهي العرايا سميت بذلك لأنها أعريت من أن تباع أو تخرص للصدقة . ولكلا التفسيرين وجه ومذهب ، فأما على التفسير الأول ، فإنها سميت عرية من أجل أن مالكها أعرى ثمرتها ، أي وهبها وتصدق بها وأما على التفسير الثاني ، فإنها سميت عرية من أجل أنها أعراها من البيع [ ص: 1081 ] ، فلم يبعها مع ثمر نخله ، فلا يخرص عليه ذلك في أحد من الوجهين ؛ لأن الثمار إنما تخرص للصدقة .

وهو على التفسير الأول تصدق بها كلها ، فلا تؤخذ صدقة من صدقة ولا تخرص عليه في الوجه الثاني أيضا ؛ لأنه إنما احتبسها لنفسه وعياله ، وقد عفي لهم عن قد ما يأكلون .

قال حميد : وهذا كله قول أهل الحجاز : فأما ناس من أهل الرأي من أهل العراق ، فإنهم قد أنكروا خرص الثمار للصدقة ، مع كثرة الآثار في ذلك بوجوه قالوها : منها أنهم قالوا : إن الخرص من المزابنة في البيع وقالوا أيضا : هو كالقمار والمخاطرة التي لا يدرى فيها أي الفريقين يذهب بمال صاحبه ، وقالوا : إنما كان الخرص للنبي خاصة ؛ لأنه كان يوفق من الصواب لما لا يوفق له غيره ،

وقالوا كذلك : القرعة لا تجوز لأحد بعد والخرص والقرعة سنتان ماضيتان قد عمل بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعملت بهما الأئمة والعلماء بعده ، فأما تشبيههم الخرص [ ص: 1082 ] بالمزابنة في البيع ، وإبطالهم إياه في الصدقة من أجل البيع ، فإن شرائع الإسلام أمهات لا يقاس بعضها ببعض ، لأن لكل واحدة منهن حكما غير الأخرى ، ولو احتج محتج على قائل هذا فقال له : إن جاز لك أن تجعل البيع أصلا تقيس عليه الصدقة ، فإني أجعل الصدقة أصلا أقيس عليه البيع - ما كان دعواهما إلا واحدا ، وكلاهما كان أخذ في غير الصواب

وأما قولهم إن الخرص كالقمار والمخاطرة ، فإنما قصد بالخرص قصد البر والتقوى ، ووضع الحقوق في مواضعها ، وقصد بالقمار قصد الفجور والزيغ عن الحق ، وأخذ الأموال بالباطل ، فكم بين هذا وذلك ؟ ومتى يستوي الغي بالرشاد ؟ مع أن الذي جاء بتحريم القمار والمزابنة في البيع هو الذي سن الخرص وأباحه وعمل به ، وكفانا وإياهم مؤنة النظر في ذلك ، فما جعل قوله هناك مقبولا ، وههنا مردودا ؟ وأما قولهم أن النبي كان يوفق من الخرص والقرعة لما لا يوفق له غيره ، فإن من الحجة عليهم أن يقال لهم : وهل شيء من الأمور سوى هذين يوفق الناس له كتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم إذا خصصت له هاتين الخصلتين دون سائر الأشياء ؟ ولو كان الناس لا يجب عليهم اتباع الأنبياء إلا فيما يعلمون أنهم يسددون لصوابه كتسديد الأنبياء وإلا اجتنبوه لوجب على الناس إذا ترك الاستنان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولزمهم اجتناب أموره وأحكامه ، لأن العقل محيط بأن من يأتيه وحي السماء وأخبارها بعيد الشبه مما يغلط على علم مغيب ، ولكن الذي [ ص: 1083 ] يجب عليهم وعلينا إحياء سنن النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره والاهتداء بهديه في تغليظ ما غلظ ، وتسهيل ما سهل ، والله ولي ما غاب عنا من ذلك .

يليه باب صدقة الأحباس والأوقاف ، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم تسليما . [ ص: 1084 ] [ ص: 1085 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية