الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 377 ] المذهب الخامس مذهب ( الأشعري ) ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب - تعالى ; لأنه ليس بحرف ولا صوت ، ولا ينقسم ، ولا له أبعاض ، ولا له أجزاء ، وهو عين الأمر ، وعين النهي ، وعين الخبر ، وعين الاستخبار ، الكل واحد ، وهو عين التوراة ، وعين الإنجيل ، والقرآن والزبور ، وكونه أمرا ونهيا ، وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد لا أنواع له ، فإنه لا ينقسم بنوع ولا جزء ، وكونه قرآنا وتوراة وإنجيلا تقسيم للعبارات عنه لا لذاته ، بل إذا عبر عن ذلك المعنى بالعربية ، كان قرآنا ، وإذا عبر عنه بالعبرانية ، كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، والمعنى واحد ، وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا يسميها حكاية ، وهي خلق من المخلوقات ، وعنده لم يتكلم الله بهذا الكلام العربي ، ولا سمع من الله ، وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ويشم ويذاق ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود ، فكل وجود يصح تعلق الإدراكات كلها به كما قرره في مسألة رؤية من ليس في جهة الرائي ، وأنه يرى حقيقة ، وليس مقابلا للرائي . هذا قولهم في الرؤية ، وذلك قولهم في الكلام .

      والبلية العظمى نسبة ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه جاء بهذا ، ودعا إليه الأمة ، وأنهم أهل الحق ، ومن عداهم أهل الباطل ، وجمهور العقلاء يقولون : إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه ، وهو لا يتصور إلا كما تتصور المستحيلات الممتنعات ، وهذا المذهب مبني على مسألة إنكار قيام الأفعال ، والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمونها مسألة حلول الحوادث ، وحقيقتها إنكار أفعاله وربوبيته وإرادته ومشيئته .

      التنبيه إلى أن الأشعرية غير الأشعري .

      وأقول والحق يقال : لا نشك أن ابن القيم هذا ، وشيخه ابن تيمية رحمهما الله - تعالى - من أعلم من صنف في المقالات والملل والنحل ، وأدراهم بمواردها ومصادرها ، وأبصرهم برد الباطل منها وإدحاضه ، وأوفاهم تقريرا لمذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وأشدهم تمسكا به ونصرة له ، وأكملهم تحريرا لبراهينه عقلا ونقلا ، وأكثرهم اشتغالا بهذا الباب وتنقيبا عن عامل البدع فيه ، واجتثاثا [ ص: 378 ] لأصولها ، ولكن هذا الذي ذكره رحمه الله تعالى ، عن الأشعري في مسألة القرآن هو الذي وجدناه عمن ينتسب إلى الأشعري ، ويسمون أنفسهم أهل الحق ، ويقرون ذلك ويكررونه في كتبهم ، ويناظرون عليه .

      وأما أبو الحسن الأشعري نفسه - رحمه الله تعالى - فالذي قرره في كتابه ( الإبانة ) الذي هو من آخر ما صنف هو قول أهل الحديث ساقه بحروفه ، وجاء به برمته ، واحتج فيه ببراهينهم العقلية والنقلية ، ثم نقل أقوال الأئمة في ذلك كأحمد بن حنبل ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، وأصحابه ، والحمادين ، والسفيانين ، وعبد العزيز بن الماجشون ، والليث بن سعد ، وهشام ، وعيسى بن يونس ، وحفص بن غياث ، وسعد بن عامر ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأبي بكر بن عياش ، ووكيع ، وأبي عاصم النبيل ، ويعلى بن عبيد ، ومحمد بن يوسف ، وبشر بن المفضل ، وعبد الله بن داود ، وسلام بن أبي مطيع ، وابن المبارك ، وعلي بن عاصم ، وأحمد بن يونس ، وأبي نعيم ، وقبيصة بن عقبة ، وسليمان بن داود ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيرهم ، ولولا خوف الإطالة لسقنا فصولا كاملة بحروفه ، فإنه وإن أخطأ في تأويل بعض الآيات ، وأجمل في بعض المواضع ، فكلامه يدل على أنه مخالف للمنتسبين إليه من المتكلمين في مسألة القرآن ، كما هو مخالف لهم في إثباته الاستواء والنزول ، والرؤية والوجه ، واليدين ، والغضب والرضا ، وغير ذلك ، وقد صرح في مقالاته بأنه قائل بما قال الإمام أحمد بن حنبل وأئمة الحديث ، معتقد ما هم عليه ، مثبت لما أثبتوه ، محرم ما أحدث المتكلمون من تحريف الكلم عن مواضعه ، وصرف اللفظ عن ظاهره ، وإخراجه عن حقيقته ، وبالجملة فبينه وبين المنتسبين إليه بون بعيد ، بل هو بريء منهم ، وهم منه برآء ، والموعد الله ، وكفى بالله حسيبا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية