الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      القول في حمد الله وشكره ، والاستعانة به


      والحمد لله كما هدانا إلى سبيل الحق واجتبانا

      أي ( و ) أثني بحمده فأقول ( الحمد لله ) كما أثنى به على نفسه في كتابه ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) ، وأمر بذلك عباده ، فقال - تعالى - مخاطبا لنبيه خطابا يدخل فيه جميع أمته : ( قل الحمد لله ) ، ( النمل : 59 ) ، فله الحمد كالذي يقول ، وخيرا مما نقول ، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه ، فله الحمد على أسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وله الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة ، وله الحمد في الأولى والآخرة .

      وعن الأسود بن سريع - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أما إن ربك يحب [ ص: 69 ] الحمد . رواه أحمد والنسائي . وعن الحكم بن عمير - رضي الله عنه - وكانت له صحبة قال : قال رسول الله : إذا قلت الحمد لله ، فقد شكرت الله فزادك . رواه ابن جرير .

      وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله . رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب . وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فقال : الحمد لله ، إلا كان الذي أعطي - يعني : من هدايته للحمد - أفضل مما أخذ . رواه ابن ماجه .

      وللقرطبي عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل ، ثم قال الحمد لله ، لكان " الحمد لله " أفضل من ذلك . قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه " الحمد لله " أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا ; لأن ثواب الحمد لا يفنى ، ونعيم الدنيا لا يبقى . قال الله تعالى : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) [ ص: 70 ] ( الكهف : 46 ) .

      وقال علي رضي الله عنه : " الحمد لله " كلمة أحبها الله - تعالى - لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد الحمد لله ، قال شكرني عبدي . وقال رضي الله عنه : الحمد لله كلمة كل شاكر ، وقال رضي الله عنه : الحمد لله هو الشكر لله ، هو استخذاء له ، والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك .

      وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن ، وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله . وفي معنى " الحمد لله " وفضلها آثار غير ما ذكرنا لا تحصى ، ولما كان من أكبر نعم الله علينا ، وأجل مننه الواصلة إلينا ، هدايته إيانا إلى صراطه المستقيم ، الذي هو دين الإسلام الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، ولا يقبل من أحد غيره ، ناسب الثناء عليه بها ، فقلت : ( كما هدانا ) أي على ما هدانا إرشادا ودلالة بكتبه ورسله ، وتوفيقا وتسديدا بمشيئته وقدره إلى سبيل الحق ، وهو دين الإسلام والإيمان ( واجتبانا ) له ، وبذلك قال - تعالى - ممتنا علينا وله الحمد والمنة : ( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ، ( البقرة : 198 ) ، وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ، ( آل عمران 164 ) ، وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) ، ( الحج 77 - 78 ) ، ولما كان الحمد الخبري أبلغ من الإنشائي لدلالته [ ص: 71 ] على الثبوت والاستمرار ، قدمته عليه أولا ، ثم عطفت عليه الإنشائي جمعا بينهما ، فقلت :


      أحمده سبحانه وأشكره     ومن مساوي عملي أستغفره

      .

      ( أحمده ) أي أنشئ له حمدا آخر متجددا على توالي نعمه وتواتر فضله ، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، ( سبحانه ) أي تنزيها له عما لا يليق بنعوت جلاله وصفات كماله ، وهذه العبارة تتضمن معنى قوله في الحديث المتفق عليه : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم .

      ( وأشكره ) على ما أنعم وألهم ، امتثالا لقوله عز وجل : ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) ، ( البقرة : 152 ) .

      واختلف العلماء في معنى الحمد والشكر ، هل هما مترادفان أو لا ؟ فذهب إلى ترادفهما ابن جرير الطبري صاحب التفسير ، وجعفر الصادق وغيرهما ، وذهب جماعة من المتأخرين إلى التفرقة بينهما ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه ، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن ، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر ، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر ; لأنه يكون على المحاسن والإحسان ، فإن الله - تعالى - يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، وما خلقه في الآخرة والأولى ، ولهذا قال تعالى : [ ص: 72 ] ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) ، ( الإسراء : 111 ) ، وقال تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) ، ( الأنعام : 1 ) ، وقال تعالى : ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة ) ، ( سبأ : 1 ) ، وقال تعالى : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء ) ، ( فاطر : 1 ) ، وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام ، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه ، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان ، كما قيل :


      أفادتكم النعماء مني ثلاثة     يدي ولساني والضمير المحجبا

      .

      ولهذا قال تعالى : ( اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) ، ( سبأ : 13 ) ، والحمد يكون بالقلب واللسان ، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه ، والحمد أعم من جهة أسبابه ، وفي الحديث : الحمد لله رأس الشكر . فمن لم يحمد الله لم يشكره ، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها . والله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

      ( ومن مساوئ ) جمع مساءة ( عملي ) مضاف إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف . ( أستغفره ) السين للطلب أي أطلب منه مغفرة تلك المساوئ ، ما تقدم منها وما تأخر ، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة .

      [ ص: 73 ]

      وأستعينه على نيل الرضا     وأستمد لطفه في ما قضى

      .

      ( وأستعينه ) أطلب منه العون ( على نيل الرضا ) أي على فعل الأعمال الصالحة ، التي بسببها ينال رضاه أن يرزقنيها ، وينيلني رضاه بفضله ورحمته . ( وأستمد ) أي أطلب منه الإمداد بأن يرزقني ( لطفه ) بي ( فيما قضى ) وقدر من المصائب ، وأن يجعلني راضيا بذلك مؤمنا به ، مستيقنا أنه من عند الله ، وأن وقوعه خير عندي من كونه لم يقع ، وأن يهدي قلبي كما قال تعالى : ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ) ، ( التغابن : 11 ) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : وأسألك الرضا بعد القضاء . الحديث ، فإن ذلك أعلى درجات الإيمان بالقدر ، وهو الرضا بالمصيبة .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية