الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      كلام الله عز وجل


      كلم موسى عبده تكليما ولم يزل بخلقه عليما

      .

      أي ومما أثبته ربنا - عز وجل - لنفسه ، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - تكليمه عبده ورسوله موسى بن عمران بدون واسطة رسول بينه وبينه ، بل أسمعه كلامه الذي هو صفته اللائقة بذاته كما شاء وعلى ما أراد ، قال الله - عز وجل - في سورة البقرة : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) ، ( البقرة : 253 ) ، وقال في سورة النساء : ( وكلم الله موسى تكليما ) ، ( النساء : 164 ) ، فأكده بالمصدر مبالغة في البيان والتوضيح ، وقال - تعالى - في سورة الأعراف : [ ص: 248 ] ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ) ، ( الأعراف : 143 - 145 ) ، وقال - تعالى - في سورة مريم : ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) ، ( مريم : 51 - 53 ) ، وقال - تعالى - في سورة طه : ( وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وما تلك بيمينك ياموسى ) . . . إلى قوله : ( ألقها ياموسى ) . . . إلى قوله : ( قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) ، ( طه : 9 - 21 ) ، إلى آخر الآيات ، وقال في سورة الشعراء : ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون ) ، ( الشعراء : 10 - 11 ) الآيات ، وقال - تعالى - في سورة النمل : ( إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه ) ، ( النمل : 7 - 12 ) الآيات ، وقال - تعالى - في سورة القصص : [ ص: 249 ] ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ) ، ( القصص : 29 - 32 ) الآيات ، والقرآن ممتلئ بذلك .

      وفي الصحيحين من حديث احتجاج آدم وموسى - عليهما السلام - عند ربهما ، وفيه قول آدم لموسى : أنت موسى الذي اصطفاك الله - تعالى - برسالاته وبكلامه ؟ الحديث ، وفيهما من حديث الشفاعة قول إبراهيم - عليه السلام : ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله . وفي رواية : ولكن ائتوا موسى ، عبدا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما . وفي رواية : ولكن ائتوا موسى ، عبدا آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجيا .

      فقد أخبرنا الله - عز وجل - أنه اصطفى عبده موسى بكلامه ، واختصه بإسماعه إياه بدون واسطة ، وأنه ناداه وناجاه وكلمه تكليما ، وأخبرنا - تعالى - بما كلمه به ، وبالموضع الذي كلمه فيه ، وبالميقات الذي كلمه فيه ، وأخبر عنه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك في أصح الروايات ، فأي كلام أفصح من كلام الله - تعالى - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأي بيان أوضح من بيان الله ورسوله ، وبأي برهان يقنع من لم يقنع بذلك ، ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) ، ( الجاثية : 6 ) ، وفي هذا أعلى دلالة وأبينها ، وأوضحها على ثبوت صفة الكلام لربنا عز وجل ، وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء بكلام يسمعه من يشاء ، أسمعه موسى - عليه السلام - كيف شاء وعلى ما أراد ، وقد ثبت بالكتاب والسنة نداؤه الأبوين - عليهما السلام - إذ [ ص: 250 ] يقول : ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) ، ( الأعراف : 22 ) ، وأن الملائكة تسمع كلام الله بالوحي ، كما قال تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) ، ( سبأ : 23 ) .

      وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير . الحديث ، وفيهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله - تبارك وتعالى - إذا أحب عبدا ، نادى جبريل : إن الله قد أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في السماء : إن الله قد أحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ويوضع له القبول في الأرض . وثبت بالكتاب والسنة كلامه مع الرسل والملائكة وغيرهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) ، ( المائدة : 109 ) ، وقال تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) ، ( النحل : 83 ) ، وقال تعالى : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ) ، ( النحل : 85 ) ، وقال تعالى : ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) ، ( القصص : 62 ) ، وقال تعالى : ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) ، ( القصص : 65 ) ، وأنه يقول لأهل الجنة : سلام عليكم ، كما قال [ ص: 251 ] تعالى : ( سلام قولا من رب رحيم ) ، وأنه يقول لأهل النار : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) ، ( المؤمنون : 108 ) ، والقرآن ممتلئ بذلك .

      وفي الصحيح عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان . الحديث ، وفيه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . وفيه تعليقا عن جابر ، عن عبد الله بن أنيس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يحشر الله العباد ، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان .

      وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وفيه عنه - رضي الله عنه - قال : يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا أنا قبضت صفيه من أهل الدنيا ، ثم احتسبه إلا الجنة . وفيه من حديث الشفاعة : يقول الله - عز [ ص: 252 ] وجل : من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، فأخرجوه . الحديث ، وفيه من حديث آخر أهل الجنة دخولا الجنة : فيقول الله تعالى : اذهب فادخل الجنة ، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها .

      وفيه من كلامه - تعالى - مع أهل الموقف قوله تعالى : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، وقوله - عز وجل - للمؤمنين : أنا ربكم . وفيه في باب كلام الرب - عز وجل - مع أهل الجنة ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك . فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا .

      وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال الله تعالى : أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه . وفيهما [ ص: 253 ] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : يقول الله عز وجل : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها . الحديث .

      وفيهما من حديثه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه ، قامت الرحم ، فقال : مه ؟ قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ الحديث . وفيه من حديثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله عز وجل : إذا أحب عبدي لقائي ، أحببت لقاءه ، وإذا كره لقائي ، كرهت لقاءه .

      وفيه من حديثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي . وفيه من حديثه أيضا في قصة المذنب المستغفر ، الحديث ، وفيه : فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي . وذكر الحديث ، وفيه من [ ص: 254 ] حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال : مطر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : قال الله عز وجل : أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن بي . وفيه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في ذكر طي الله - تعالى - السماوات والأرض ، وفيه : ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الملك . الحديث .

      وفيه من حديث عبد الله ، عن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلا سأله : كيف سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ قال : يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقول تعالى : أعملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم ، ويقول : أعملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم . فيقرره ثم يقول : إني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم .

      وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقول الله - تبارك وتعالى - لأهون أهل النار عذابا : لو كانت لك الدنيا وما فيها ، أكنت مفتديا بها ؟ فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت أهون من هذا ، وأنت في صلب آدم ألا تشرك - أحسبه قال : ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك .

      وعن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ، ومالا وولدا ؟ وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وتربع ، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول : لا ، فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني . رواه مسلم والترمذي ، وقال : هذا حديث صحيح غريب . ومعنى قوله : اليوم أنساك كما نسيتني ، اليوم أتركك في العذاب ا هـ .

      وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك ، قالت : ولكن [ ص: 255 ] والله ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا ، يبرئني الله بها ، فأنزل الله تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) العشر الآيات ، ولو ذهبنا ننقل الأحاديث في : قال الله ، ويقول ويتكلم ، وينادي ونحو ذلك لطال الفصل ، وفيما ذكرنا كفاية .

      وهذه الآيات والأحاديث مما ذكرنا ومما لم نذكر كلها شاهدة بأن الله - تعالى - لم يزل متكلما بمشيئته وإرادته ، يتكلم بما شاء ، كيف شاء متى شاء بكلام حقيقة ، يسمعه من يشاء من خلقه ، وأن كلامه قول حقيقة كما أخبر ، وعلى ما يليق بعظمته كما قال تعالى : ( والله يقول الحق ) ، وقال : ( سلام قولا من رب رحيم ) ، وقال : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) ، والقرآن كلامه - تعالى - تكلم به حقيقة كما شاء ، وهو من فاتحته إلى خاتمته شاهد بذلك ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بحثه قريبا ، وكلامه - تعالى - صفة من صفاته من لوازم ذاته ، والصفة تابعة لموصوفها ، فصفات الباري - تبارك وتعالى - قائمة به أزلية باقية ببقائه ، لم يزل متصفا بها ولا يزال كذلك ، لم تجدد له صفة لم يكن متصفا بها ، ولا تنفد صفة كان متصفا بها ، بل هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية