العلامة البارع ، ذو البلاغتين أبو محمد القاسم بن علي بن [ ص: 461 ] محمد بن عثمان البصري الحرامي الحريري ، صاحب المقامات .
ولد بقرية المشان من عمل البصرة .
وسمع من أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى ، وأبي القاسم الفضل القصباني ، وتخرج به في الأدب .
قال ابن افتخار : قدم الحريري بغداد ، وقرأ على علي بن فضال المجاشعي ، وتفقه على ابن الصباغ ، ، وقرأ الفرائض على وأبي إسحاق الشيرازي الخبري ، ثم قدم بغداد سنة خمسمائة ، وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته ، وقد أخذ عليه فيها ابن الخشاب أوهاما يسيرة [ ص: 462 ] اعتذر عنها . ابن بري
قلت : وأملى بالبصرة مجالس ، وعمل " درة الغواص في وهم الخواص " و " الملحة " وشرحها وديوانا في الترسل ، وغير ذلك ، وخضع لنثره ونظمه البلغاء .
روى عنه ابنه أبو القاسم عبد الله ، والوزير علي بن طراد ، وقوام الدين علي بن صدقة ، والحافظ ابن ناصر ، وأبو العباس المندائي ، وأبو بكر بن النقور ، ومحمد بن أسعد العراقي ، والمبارك بن أحمد الأزجي ، وعلي بن المظفر الظهيري ، وأحمد بن الناعم ، ومنوجهر بن تركانشاه ، وأبو الكرم الكرابيسي ، وأبو علي ابن المتوكل ، وآخرون .
وآخر من روى عنه بالإجازة أبو طاهر الخشوعي الذي أجاز لشيوخنا ، فعن قال : كان الحريري أبو زيد السروجي شيخا شحاذا بليغا ، ومكديا فصيحا ورد البصرة علينا ، فوقف في مسجد بني حرام ، فسلم ، ثم سأل ، وكان الوالي حاضرا ، والمسجد غاص بالفضلاء ، فأعجبتهم فصاحته ، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرنا في " المقامة الحرامية " فاجتمع عندي جماعة ، فحكيت أمره ، فحكى لي كل واحد أنه شاهد منه في مسجد مثل ما شاهدت ، وأنه سمع منه معنى [ ص: 463 ] في فصل ، وكان يغير شكله ، فتعجبوا من جريانه في ميدانه ، وتصرفه في تلونه ، وإحسانه ، وعليه بنيت هذه المقامات . نقل هذه القصة التاج المسعودي عن ابن النقور عنه .
قلت : اشتهرت المقامات ، وأعجبت وزير المسترشد شرف الدين أنوشروان القاشاني فأشار عليه بإتمامها ، وهو القائل في الخطبة : فأشار من إشارته حكم ، وطاعته غنم .
وأما تسميته الراوي لها بالحارث بن همام ، فعنى به نفسه أخذا بما ورد في الحديث : كلكم حارث ، وكلكم همام فالحارث : الكاسب ، والهمام : الكثير الاهتمام ، فقصد الصفة فيهما ، لا العلمية . وبنو حرام : بحاء مفتوحة وراء ، والمشان بالفتح : بليدة فوق البصرة معروفة بالوخم .
قال ابن خلكان وجدت في عدة تواريخ أن صنف [ ص: 464 ] المقامات بإشارة الحريري ، إلى أن رأيت أنوشروان بالقاهرة نسخة بخط المصنف ، وقد كتب أنه صنفها للوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير المسترشد ، فهذا أصح ، لأنه بخط المصنف .
وفي " تاريخ النحاة " للقفطي أن أبا زيد السروجي اسمه مطهر بن سلار ، وكان بصريا لغويا ، صحب ، وتخرج به ، وتوفي بعد عام أربعين وخمسمائة ، سمع الحريري أبو الفتح المندائي منه " الملحة " بسماعه من . الحريري
وقيل : إن عمل المقامات أربعين وأتى بها إلى الحريري بغداد ، فقال بعض الأدباء : هذه لرجل مغربي مات بالبصرة ، فادعاها ، فسأله الوزير عن صناعته ، فقال : الأدب ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها ، فانفرد وقعد زمانا لم يفتح عليه بما يكتبه ، فقام خجلا . الحريري
وقال علي بن أفلح الشاعر :
شيخ لنا من ربيعة الفرس ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما رماه وسط الديوان بالخرس
وقيل : بل كره المقامة ببغداد ، فتجاهل ، وقبل صغيرا بحلقة . [ ص: 465 ] وكان غنيا له ثمانية عشر ألف نخلة .
وقيل : كان عفشا زري اللباس فيه بخل ، فنهاه الأمير عن نتف لحيته ، وتوعده ، فتكلم يوما بشيء أعجب الأمير ، فقال : سلني ما شئت ، قال : أقطعني لحيتي ، فضحك ، وقال : قد فعلت .
توفي في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة ، وخلف ابنين : الحريري نجم الدين عبد الله ، وقاضي البصرة ضياء الإسلام عبيد الله ، وعمره سبعون سنة .