الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            15839 وعن سلامة العجلي قال : جاء ابن أخت لي من البادية - يقال له : قدامة ، فقال لي ابن أختي : أحب أن ألقى سلمان فأسلم عليه ، فخرجنا إليه فوجدناه بالمدائن ، وهو يومئذ على عشرين ألفا ، فوجدناه على سرير يسف حوضا ، فسلمنا عليه ، قلت : يا أبا عبد الله ، هذا ابن أخت لي قدم علي من البادية فأحب أن يسلم عليك ، فقال : وعليه السلام ورحمة الله ، قلت : يزعم أنه يحبك قال : أحبه الله . قال : فتحدثنا وقلنا له : يا أبا عبد الله ، ألا تحدثنا عن أصلك وممن أنت ؟ قال : أما أصلي وممن أنا فأنا من رامهرمز ، كنا قوما مجوسا ، فأتى رجل نصراني من أهل الجزيرة ، وكان يمر بنا فينزل فينا ، واتخذ فينا ديرا ، وكنت في كتاب الفارسية ، وكان لا يزال غلام معي في الكتاب [ ص: 341 ] يجيء مضروبا يبكي وقد ضربه أبواه ، فقلت له يوما : ما يبكيك ؟ قال : يضربني أبواي ، قال : ولم يضرباك ؟ قال : آتي صاحب هذا الدير فإذا علما ذلك ضرباني ، وأنت لو أتيته لسمعت منه حديثا عجبا ، قلت : اذهب بي معك ، فأتيناه فحدثنا عن بدء الخلق خلق وعن بدء خلق السماوات والأرض ، وعن الجنة والنار . قال : فحدثنا حديثا عجبا قال : وكنت أختلف إليه معه . قال : ففطن لنا غلمان من الكتاب ، فجعلوا يجيئون معنا ، فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه ، فقالوا له : يا هذا إنك قد جاورتنا فلم نر من جوارك إلا الحسن ، وإنا نرى غلماننا يختلفون إليك ، وإنا نخاف أن تفتنهم علينا ، اخرج عنا ، قال : نعم . قال لذلك الغلام الذي يأتيه : اذهب معي قال : لا أستطيع ذلك ، قد علمت شدة أبوي علي . قلت : لكني أخرج معك . وكنت يتيما لا أب لي . فخرجت معه فأخذنا جبل رامهرمز ، فجعلنا نمشي ونتوكل ، ونأكل من ثمر الشجر حتى قدمنا الجزيرة ، فقدمنا نصيبين ، فقال لي صاحبي : يا سلمان ، إن قوما هاهنا هم عباد أهل الأرض ، وأنا أحب أن ألقاهم . قال : فجئناهم إليهم يوم الأحد ، وقد اجتمعوا ، فسلم عليهم صاحبي فحيوه وبشوا له ، وقالوا : أين كانت غيبتك ؟ قال : كنت في إخوان لي من قبل فارس ، فتحدثنا ما تحدثنا ، ثم قال لي صاحبي : قم يا سلمان انطلق ، فقلت : لا دعني مع هؤلاء . قال : قلت إنك لا تطيق ما يطيق هؤلاء ، يصومون من الأحد إلى الأحد ، ولا ينامون هذا الليل . وإذا فيهم رجل من أبناء الملوك ترك الملك ودخل في العبادة ، فكنت فيهم حتى إذا أمسينا فجعلوا يذهبون واحدا واحدا إلى غاره الذي يكون فيه ، قال :فلما أمسينا ، قال الرجل الذي من أبناء الملوك : ما هذا الغلام ؟ يضيعوه ليأخذه رجل منكم . قالوا : خذه أنت ، قال لي : هلم يا سلمان فذهب بي معه حتى أتى غاره الذي يكون ، فقال : يا سلمان هذا خبز وهذا أدم ، فكل إذا غرثت ، وصم إذا نشطت ، وصل ما بدا لك ، ونم إذا كسلت ، ثم قام في صلاته فلم يكلمني إلا ذاك ولم ينظر إلي ، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا يكلمني أحد حتى كان الأحد ، فانصرف إلي ، فذهبنا إلى مكانهم الذي كانوا يجتمعون . قال : وهم يجتمعون كل أحد ، يفطرون فيه ، فيلقى بعضهم بعضا فيسلم بعضهم على بعض ثم لا يلتفتون إلى مثله . قال : فرجعنا إلى منزلنا فقال لي مثل ما قال لي أول مرة : هذا خبز وأدم ، فكل منه إذا غرثت ، وصم إذا نشطت ، وصل ما بدا لك ، ونم إذا كسلت . ثم دخل في صلاته فلم يلتفت إلي ولم يكلمني إلى الأحد الآخر ، فأخذني غم وحدثت نفسي بالفرار ، ثم دخل في صلاته فقلت : أصبر أحدين أو ثلاثة ، فلما كان الأحد رجعنا إليهم ، فأفطروا واجتمعوا فقال لهم : إني أريد بيت المقدس ، فقالوا له : وما [ ص: 342 ] تريد إلى ذلك ؟ قال : لا عهد لي به . قالوا : إنا نخاف أن يحدث به حدث فيليك غيرنا وكنا نحب أن نليك . قال : لا عهد لي به ، فلما سمعته يذكر ذاك فرحت ، قلت : نسافر نلقى الناس ، فذهب عني الغم الذي كنت أجد . فخرجنا أنا وهو ، وكان يصوم من الأحد إلى الأحد ، ويصلي الليل كله ، ويمشي النهار ، فإذا نزلنا قام يصلي ، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهينا إلى بيت المقدس وعلى الباب رجل مقعد يسأل الناس قال : أعطني ، قال : ما معي شيء ، فدخلنا بيت المقدس ، ، فلما رآه أهل بيت المقدس بشوا إليه واستبشروا به ، فقال لهم : غلامي هذا ، فاستوصوا به ، فانطلقوا بي فأطعموني خبزا ولحما ، ودخل في صلاته فلم ينصرف إلي حتى كان يوم الأحد الآخر ، ثم انصرف فقال لي : يا سلمان ، إني أريد أن أضع رأسي ، فإذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني ، فوضع رأسه فبلغ الظل الذي قال فلم أوقظه ; مأواة له ، مما رأيت من اجتهاده ونصبه ، فاستيقظ مذعورا ، فقال : يا سلمان ، ألم أكن قلت لك : إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني ؟ قلت : بلى ، ولكن إنما منعني مأواه لك لما رأيت من دأبك قال : ويحك يا سلمان ! إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل منه لله خيرا ، ثم قال لي : يا سلمان اعلم أن أفضل ديننا اليوم النصرانية ، قلت : ويكون بعد اليوم دين أفضل من النصرانية ؟ - كلمة ألقيت على لساني - قال : نعم ، يوشك أن يبعث نبي يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه ، قلت : وإن أمرني أن أدع دين النصرانية ؟ قال : نعم ; فإنه نبي الله لا يأمر إلا بحق ، ولا يقول إلا حقا ، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعتها . ثم خرجنا من بيت المقدس ، فمررنا على ذلك المقعد ، فقال له : دخلت فلم تعطني وهذا تخرج فأعطني ، فالتفت فلم ير حوله أحدا قال : فأعطني يدك ، قال : فناوله يده ، فقال : قم بإذن الله ، فقام صحيحا سويا ، فتوجه نحو بيته فأتبعته بصري تعجبا مما رأيت ، وخرج صاحبي وأسرع المشي واتبعته ، وتلقاني رفقة من كلب أعراب ، فسبوني فحملوني على بعير وشدوني وثاقا ، فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة ، فاشتراني رجل من الأنصار ، فجعلني في حائط له من نخل ، فكنت فيه . قال : ومن ثم تعلمت عمل الخوص ; أشتري خوصا بدرهم وأعمله فأبيعه بدرهمين ، فأرد درهما إلى الخوص ، وأستنفق درهما أحب أن آكل من عمل يدي ، وهو يومئذ أمير على عشرين ألفا . فبلغنا ونحن بالمدينة أن رجلا خرج بمكة يزعم أن الله - عز وجل - أرسله ، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث ، فهاجر إلينا ، وقدم علينا ، فقلت : والله وجربنه ، فذهبت إلى السوق فاشتريت لحم جزور بدرهم ثم طبخته ، فجعلت [ ص: 343 ] قصعة من ثريد فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه ، فقال : " ما هذه ؟ صدقة أم هدية ؟ " . قلت : بل صدقة . قال لأصحابه : " كلوا بسم الله " . وأمسك ولم يأكل . فمكثت أياما ، ثم اشتريت أيضا بدرهم لحم جزور ، فأضع مثلها واحتملتها حتى أتيته بها فوضعها بين يديه ، فقال : " ما هذه ؟ هدية أم صدقة " . قلت : لا ، بل هدية قال لأصحابه : " كلوا بسم الله " . وأكل معهم ، قلت : هذا والله يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فنظرت فرأيت بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة ، فأسلمت ، ثم قلت له ذات [ يوم ] : يا رسول الله ، أي قوم النصارى ؟ قال : " لا خير فيهم " وكنت أحبهم حبا شديدا ؛لما رأيت من اجتهادهم ،ثم إني سألته بعد أيام : يا رسول الله ، أي قوم النصارى ؟ قال :لا خير فيهم ولا فيمن يحبهم . قلت في نفسي : فأنا والله أحبهم ، قال : وذلك والله حين بعث السرايا وجرد السيف ، فسرية تدخل وسرية تخرج ، والسيف يقطر ، فقلت : تحدث الآن إني أحبهم فيبعث إلي فيضرب عنقي ، فقعدت في البيت ، فجاءني الرسول ذات يوم فقال : يا سلمان ، أجب ، قلت : من ؟ قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : والله هذا الذي كنت أحذر ، قلت : نعم ، اذهب حتى ألحقك قال : لا والله حتى تجيء ، وأنا أحدث نفسي أن لو ذهب أن أفر . فانطلق بي ، فانتهيت إليه ، فلما رآني تبسم وقال لي : " يا سلمان ، أبشر فقد فرج الله عنك " . ثم تلا علي هؤلاء الآيات : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين . أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين . قلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق نبيا لقد سمعته يقول : لو أدركته فأمرني أن أقع في النار لوقعتها ، إنه نبي لا يقول إلا حقا ، ولا يأمر إلا بحق . )

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية