السؤال
السلام عليكم
عندي مشكلة وأتمنى أن أجد لها حلا.
مشكلتي أني فاقد حنان الأب، وفي حياتي كلها ما عشت لحظة رأيت أو أحسست فيها بحنان الأب، فوالدي رحمه الله توفي قبل ثلاث سنوات، وقد كان نادرا ما يجلس في البيت، كان كل وقته في العمل، كان يذهب العصر ولا يرجع إلا وقت النوم، وينام.
أنا الآن تعبان جدا، كلما أرى صورة تدل على حنان الأب أسال نفسي: هل سأموت وأنا ما عشت لحظة فيها حنان الأبوة؟! وأحيانا أقول لنفسي سيطلع لي أب غير أبي المتوفى، وسأعيش معه حنان الأبوة، ودائما ما أحلم بهذا.
تعبت..كل يوم أبكي، أحس أني فاقد لشيء كبير لدرجة أني صارت تأتيني غيرة لما أسمع أصدقائي يتكلمون مع آبائهم!
الشيء الذي يخيفني أكثر أني أخاف إذا جاءني أولاد ولا أستطيع أن أعطيهم حنانا، على قول: (فاقد الشيء لا يعطيه).
أتمنى من كل أعماق قلبي أن أجد حلا منكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
إنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع.
بخصوص ما ورد برسالتك فإنه ومما لا شك فيه أن فقد الوالد من أعظم الهموم الكبرى التي تصيب الشاب في حياته، خاصة وأنه أيضا قد ترك فراغا كبيرا في حياتك قبل أن يتوفى - عليه رحمة الله تعالى - مما جعلك تشعر فعلا بحاجتك إلى الحنان بدرجة أكبر من غيرك، وهذا الذي حدث أقول لك أخي الكريم الفاضل من وفاة والدك - عليه رحمة الله تعالى - هو قدر الله الذي شاء الله تبارك وتعالى أن يقدره على كل إنسان حي، لأنه جل جلاله كتب الفناء على كل شيء واختص نفسه بالبقاء جل جلاله سبحانه.
لكن ينبغي علينا أخي الكريم الفاضل أن لا نقف طويلا حتى تتعطل حياتنا أمام هذا الفقد، لأن الفقد هذا شيء من خلق الله تبارك وتعالى الذي خلقه الله لحكمة يعلمها، وليجمع الناس ليوم لا مرد فيه من الله تبارك وتعالى ليحاسب الناس على ما قدموا وما أخروا، ولست أنت أول من يموت والده - ولدي محمد - وإنما أنت ترى كل يوم أمامك هؤلاء الناس الذين تحصدهم الحروب وقد تركوا أبناء وهم ما زالوا في أحشاء أمهاتهم بل ما زالوا رضعا بل ما زالوا في السنوات الأولى، أما أنت فقد من الله عليك بأن عشت مع والدك خمسة عشر عاما، والذي تركه والدك قطعا في حياتك ليس شيئا بسيطا، لأنه كما ذكرت لم يكن حريصا أو لعل ظروفه لم تكن قد ساعدته على أن يتواصل معك بصورة كبيرة وهو في حال حياته نظرا لانهماكه في العمل إلى العصر، ثم بعد ذلك خروجه من المنزل وعودته مرة ثانية مع النوم، فلم يكن لديه هذا التمدد الكبير في حياتك، إلا أنك الآن أصبحت تشعر بحاجة إليه وإلى أب يحنو عليك ويعطف عليك ويملأ حياتك عطفا ورقة وحنانا، وهذا أنا معك فيه، ولكن أخي الكريم: ماذا يفعل الإنسان إذا كان الله تبارك وتعالى قد قدر له قدرا وهو خير يقينا، لأن قدر الله تبارك وتعالى خير لك وخير لوالدك؟ فلعل والدك إذا استمرت به الحياة أن يكون حاله على خلاف ذلك، ولعلك أيضا لو استمرت الحياة بوالدك تكون أنت قد عققته أو أسأت معاملته أو لم تكن ذاك الابن البار المحسن إليه، فما قدره الله تبارك وتعالى فهو خير، ويجب علينا أن نرضى بقضاء الله وقدره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط).
شعورك بالعطف والحنان، هذا شيء طبيعي، ولكن لا ينبغي أن يعجزك عن أداء رسالتك في الحياة، لأنك لست أول من يموت والده أو تموت والدته، ولكن انظر بارك الله فيك حتى إلى أعظم الخلق، نبي الله محمد عليه صلوات ربي وسلامه، توفي والده وما زالت أمه حاملة به، وكذلك توفيت والدته وهو أيضا في السادسة من عمره، وعاش النبي يتيما عليه صلوات ربي وسلامه، ورغم ذلك فاق الدنيا كلها وأصبح سيد العالمين، ومعظم العباقرة الكبار الذين غيروا وجه التاريخ لو نظرت في حياتهم وجدتهم كانوا أيتاما، ولعلهم لم يعيشوا فترة كما عشت أنت مع والدك رحمه الله تعالى، فهذا الإمام الشافعي إمام الدنيا من الأئمة الأربعة العظام، مات أبوه وهو في السنة السادسة من عمره، وكذلك لو قرأت في سيرة الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى، وكذلك في سيرة الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى، أو غيرهم من عظماء الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ وملؤا الدنيا نورا وعلما، عاشوا أيتاما، بل بعضهم ولد يتيما وبعضهم فقد والده في السنة الثانية أو الثالثة من عمره، ورغم ذلك لم تتوقف عجلة الحياة بوفاة آبائهم أبدا، وإنما واصلوا المسيرة واجتهدوا وأخذوا بالأسباب حتى تميزوا.
أنا أتمنى أن تجعل وفاة والدك هذا حافزا لك لكي تكون إنسانا ناجحا تهتم بدراستك وتهتم بدروسك ومستواك العلمي، حتى تصبح إنسانا ناجحا وإنسانا متميزا، وإذا قدر الله لك وتزوجت - وأسأل الله أن يقدر لك ذلك - ومن عليك بزوجة صالحة وأولاد، كنت معوضا لهم عما فقدت، فأنت الآن قد فقدت والدك قبل أن يموت نتيجة انشغاله، فتجتهد بتلافي هذه السلبية، وتحاول أن تنظم أوقاتك، وأن تطفي على ولدك العطف والحنان.
إن الذي تراه في الأحلام إنما هو نوع من الخيال، فإن الإنسان إذا كان في حاجة إلى أمر وفكر فيه كثيرا فإنه يأتيه في المنام كنوع من الحظ، وهذا يسمى بالخيال الواسع، ولذلك لا تلق بالا لهذه المسألة التي تراها في الأحلام، لأن هذا يسمى حديث نفس كما ذكر أهل العلم، فإن الأشياء التي يراها الإنسان في منامه إما أن تكون رؤيا من الله، وإما أن تكون حلما من الشيطان، وإما أن تكون حديث نفس، وهذا الذي تراه إنما هو حديث نفس، لأنك متعلق بهذه الفكرة، وأتمنى أن تتوقف عن البكاء وليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، وأن تعلم أن البكاء لن يقدم ولن يؤخر، وإنما اعتمد على الله ثم على نفسك، واجتهد في إرضاء والدتك والإحسان إليها، وحاول بارك الله فيك أن تطلب منها أن تعوضك هذا الأمر بمزيد من الملاطفة والضم إلى صدرها والعبث بشعرك، حتى تشعرك بأنه قد عوضك الله تبارك وتعالى بأمك خيرا عن والدك وإن كانت لن تقوم بالدور كاملا، ولكنها قطعا ستؤدي دورا عظيما في دفعك إلى التقدم وإلى الازدهار.
أتمنى أن توظف هذا الحدث أخي الكريم في تطوير أدائك، وأن تعلم أن ما عند الله خير وأبقى لأبيك، وأن تعلم أن الله تعالى قدر لك الخير، وأن الحياة لا ينبغي أن تتوقف لفقد أي عزيز مهما كان، وإنما ينبغي عليك أن تستمر في مواصلة مسيرتك العلمية، وأن تحول هذه إلى حافز لكي تكون من أوائل الطلبة على صفك حتى تتخرج وتصبح إنسانا ناجحا وتتزوج وتصبح زوجا رائعا، وتحاول أن تعوض نفسك في أبنائك عن ذلك، وثق وتأكد أن حرمانك لا يقتضي أبدا أن تكون عاجزا عن إعطاء أولادك، بل على العكس ستكون أنت أكثر من غيرك لأنك ذقت مرارة اليتم وذقت مرارة فقد الحنان، فستكون أبا رائعا وصالحصا وموفقا، وستكون مصدر عطف وحنان لأبناءك ولكل من يتعامل معك.
أسأل الله لك التوفيق والسداد، وأن يعوضك خيرا. هذا وبالله التوفيق.